تتعاظم وتيرة ذوبان الجليد تعاظماً يخالف توقعه في 2070، على رغم أن علماء المناخ نبهوا إلى أن الاحتباس الحراري يقلص كتلة الجليد في المحيط المتجمد الشمالي (أو ربما الذائب الشمالي). وتظهر صور الأقمار الاصطناعية أن الذوبان الكامل على الأبواب، وموعده غير بعيد، قد يكون في 2020 أو 2035. وكتل الجليد في المحيط المتجمد تقلصت إلى أصغر حجم لها منذ بداية رصد حجمها في 1979. ويبلغ حجم التقلص هذا 350 ألف مترمربع، أي ما يساوي مساحة فنزويلا. وأثر الاحتباس الحراري لا يقتصر على المحيط. ففي غرينلاند بلغت درجات الحرارة أعلى نسبها منذ 170 سنة. وفي شمال كندا، بدأ القيمون على حلبات رياضة الهوكي يتوسلون أنظمة تبريد للحؤول دون ذوبانها (الحلبات). والتغيرات المناخية تقلب الأحوال البيئية رأساً على عقب. فعشرات الآلاف من أحصنة البحر هاجرت إلى شاطئ ألاسكا في الشمال الغربي. ومثلها فعلت الحيوانات المائية والنباتات. وتحولت سهول قاحلة مستنقعات، وعادت إلى حالها قبل 50 مليون سنة. والعواصف الهوائية تحرّك المياه التي كانت إلى وقت قريب مجلّدة وراكدة، فيُغرق المد منازل السكان في البحر. وولد من رحم التغيرات هذه عالم جديد ومختلف. فالمنطقة مرشحة إلى الارتقاء مركزاً صناعياً وتجارياً أوجه الشبه بينه وبين البحر المتوسط كبيرة. فذوبان الجليد يساهم في تيسير الوصول إلى موارد طبيعية دفينة، منها المعادن الثمينة وما يقدر حجمه بربع احتياط العالم من النفط والغاز غير المستكشفين. وفي الصيف، صار استخدام طرق البحر «الأركتيكي» (المتجمد الشمالي) ممكناً، وهو يوفر آلاف الأميال في رحلة بين المحيطين الهادئ والأطلسي. ويتوقع أن يبرز البحر القطبي الشمالي ممراً لحركة النقل البحري المعولمة. والدول المحيطة به تساهم في بروز دوره. فما خلا روسيا، تحتكم هذه الدول إلى قوانين تشرّع المنطقة على عالم الأعمال وترفع لواء القيم الديموقراطية – وهذه ضمانة رسوخ السلام. وبدأت هذه الدول تتعاون لتذليل خلافات حدودية سلماً عبر الاحتكام إلى القانون الدولي. وقد تتربع مدينتان مثل أنكوراج (مدينة في ألاسكا الأميركية) وريكيافيك (عاصمة آيسلندا) على عرش مراكز النقل البحري وتتحول عاصمتي مال، على غرار سنغافورة ودبي. والولايات المتحدة مدعوة إلى إدراك أهمية المنطقة الاقتصادية، وإلى إدراجها في صدارة أولويات سياستها الخارجية، على ما تفعل الصين. وقبل خمسة أعوام، توقع مراقبون كثر، ومنهم كاتب هذه السطور، اندلاع نزاعات على موارد الطاقة إثر ذوبان الجليد. ففي 2007، بادرت روسيا إلى رفع علمها في بحر القطب الشمالي، ومثلها فعل عدد من الدول. لكن المصالح المشتركة حملت الدول على التعاون عوض التنافس على مصادرة الأراضي. واحتكمت إلى معاهدة قانون البحر الأممية، المعروفة بـUNCLOS الصادرة في 1982، لتنظيم الخلافات الحدودية البحرية وفرض معايير النقل التجاري البحري الآمن. وفي 2008، أجمعت الدول الخمس المطلة على المتجمد الشمالي، أي كندا والدنمارك والنروج وروسيا والولايات المتحدة، على إعلان إيلوليسات الذي يكرس الاحتكام إلى UNCLOS وقوانين «المجلس الأركتيكي». وفي 2010، ذللت روسيا والنروج خلافهما الحدودي على مقربة من جزر سفالبرد. وتبحث كندا والدنمارك في الاشتراك في تقاسم السيادة على جزيرة هانز الصخرية. وفي نيسان (أبريل) الماضي، بدأت الدول الخمس تعد اتفاقاً ينظم الصيد التجاري وسبل مواجهة التسرب النفطي. ولم تتوصل أوتاوا وواشنطن بعد إلى تحديد «وضع» الممرات المائية الشمالية الغربية: فهل هي ممرات مائية كندية داخلية أم ممرات دولية؟ وتغفل الخرائط وسع المساحات «الأركتيكية» (المتجمدة الشمالية). ففي الخرائط الأميركية، تصور منطقة ألاسكا على أنها لا تزيد على مساحة كاليفورنيا، في حين أن مساحتها هي مرتان ونصف مساحة تكساس وطول ساحلها يفوق طول ساحل 48 ولاية. وغرينلاند أكبر من أوروبا الغربية. وتشتمل المنطقة الواقعة داخل الدائرة القطبية الشمالية على 8 في المئة من مساحة الكوكب (الأرض) و15 في المئة من مساحة اليابسة. وهي خزان كبير للنفط والغاز، ولم يفت الشركات الخاصة أهمية المنطقة هذه. وعلى رغم كلفة استخراج النفط المرتفعة والقيود الناظمة، استثمرت شركة «شل» 5 بلايين دولار في التنقيب عن النفط في بحر ألاسكا، المسمى شوشكشي، وشركة «كايرن اينرجي» الاسكتلندية بليون دولار في غرينلاند. وتسعى «غازبروم» و «روسنفت» الروسيتان إلى استثمار بلايين الدولارات لتنمية القسم القطبي الشمالي من روسيا. وتتعاون الشركتان مع «كونوكوفيليبس» و «إيكسون موبيل» و «ايني» و «ستايتويل» لاستكشاف احتياطات الطاقة في سيبيريا. والطفرة النفطية قد تساهم في خفض أسعار النفط. واليوم، طالت مدة فصل الصيف وأفسحت المجال أمام التنقيب عن المعادن. وانحسار الكتلة الجليدية ساهم في تيسير رسو السفن التجارية في المرافئ العميقة. ويحتضن القطب الشمالي أكبر مناجم الزنك في العالم، ويقع أحد أبرز مناجم معدن النيكل في نوريلسك، شمال روسيا. ويعود الفضل إلى روسيا في إنتاج منطقة القطب الشمالي 40 في المئة من البالاديوم في العالم، و20 في المئة من الماس و15 في المئة من البلاتينيوم، و11 في المئة من الكوبالت، و10 في المئة من النيكل. وإلى المعادن ومصادر الطاقة، تشكل غابات المنطقة هذه 8 في المئة من احتياط الخشب في المعمورة. ويوفر الصيد في مياهها 10 في المئة من الصيد العالمي. والناظر إلى القطب الشمالي من أعلى الكرة الأرضية، يلقاه على مفترق طرق أكثر الاقتصادات إنتاجاً في العالم، وبدأت خطوط طيران «ايسلندإير» تسيّر رحلات جوية بين ريكيافيك وأنكوراج وبين سان بطرسبورغ الروسية. ويتوقع أن يربط مشروع مد كابلات بحرية لخطوط الاتصالات بين شمال شرقي آسيا وشمال شرقي الولايات المتحدة من جهة، وبين أوروبا، من جهة أخرى. ومع ذوبان الجليد، برزت طرق ملاحة بحرية جديدة تختصر المسافات. ففي 2010، أبحرت للمرة الأولى أربع سفن تجارية من شمال غربي أوروبا إلى شمال شرقي آسيا عبر طريق البحر الشمالي، ومخرت منطقة المحيط المتجمد الشمالي. وارتفع عدد السفن التي سلكت هذه الطريق إلى 34 عام 2011، و46 في العام المنصرم. ولم تعد (الطريق) فكرة خيالية، على رغم أنها لم ترتقِ بعد إلى منافسة قناة السويس أو قناة بنما. وهي صارت طريقاً بحرية في متناول ناقلات النفط التي ترغب في اختزال المسافات آلاف الأميال من غير المرور في الطرق التقليدية عبر مضيق ملقة أو جبل طارق. ومثل هذه المنطقة الغنية لم تغب عن انتباه الصين التي تسعى إلى شق طرق داخلية في منطقة المتجمد الشمالي، خصوصاً في آيسلندا وغرينلاند. وترى بكين أن آيسلندا هي بوابة المنطقة الاستراتيجية، لذلك زارها رئيس الوزراء السابق، ون جياباو. وترمي شركة صينية عامة للشحن البحري إلى استثمارات طويلة الأمد في ريكيافيك. وأبرمت الصين اتفاق تجارة حرة مع آيسلندا. وفي 2006، أغلقت الولايات المتحدة قاعدة عسكرية موروثة من الحرب الباردة في آيسلندا، على رغم أن الصين تبسط نفوذها في هذا البلد. فهي صاحبة أكبر سفارة فيه، ويزوره سيل من رجال الأعمال والمسؤولين الرسميين. و «باطن» غرينلاند بالغ الأهمية، فهو غني بالحديد والنفط. والجزيرة مستودع كميات ضخمة من معادن نادرة استخراجها قد يطوي هيمنة الصين على حركة بيع هذه المعادن. وواشنطن مدعوة إلى رفع مستوى تمثيلها في المتجمد الشمالي، وتعيين ديبلوماسي رفيع المستوى يمثل مصالحها، أي الاحتذاء بدول المنطقة. ولا شك في أن التغيرات المناخية تغيّر مكانة الأركتيكي من منطقة جيو استراتيجية ثانوية إلى صدارة الأولويات الاستراتيجية. وهي، اليوم، «جنّة» المقاولين والصناعيين، وكأنها هِبة الذوبان.