في قصيدة ( شجرة العروج ) منولوج التماهي القصديّ

عنونة القصيدة ( شجرة العروج ) له دلالة اثرائية / ايحائية في طرح تجليات باطنية ، عمقها يستمد من الشعور الحسيّ للماورائيات ، في تحفيز نظرة متماوجة في قرارة النفس ، اذن / في العنونة ما ينمّ عن شيئية ( المادي المحسوس والملموس ) بين الشجرة التي تحيلنا الى تكوينها التجسيدي ، وبين العروج .. المكوّر بشفافية الروح الضاجّة / المتسامية في حاضنات تعدّ

اطياف انسان يحاول الرقي بالمكنون المادي الى التأصل وفرض هيمنة الابتهال الصوفي الشفاف والتأمل الى عالم الكون ، وكيفية دورانه بعد ان تكالبت عليه الرزايا ،وهي تدسّ أنفها في اختناقات معترك الحياة لتترك اثرها المؤلم فينا .
 ( شجرة العروج ) قصيدة للشاعر الدكتور سعد ياسين يوسف ، صوّرت لنا فاجعة ( الكرادة ) بكل دقّة ، وكأنه يجعل من ذلك المشهد الحزين اعترافات ليوميات ساخنة ، مملوءة بالحزن

والشجن ، لا راحة فيها ، بل كل ما فيها وجع ، لمخلفات حروب ودمار وخراب ، انها رؤية فيها انعكاسات ( باطنية و ظاهرية ) وكلاهما يصبّان في غصّة تكبر يومياً دون الشعور بها ، انها رحلة مائزة مع الشهداء ، وهم يشدون أعنة رحالهم ويحملون امتعتهم الى الخالق الله تعالى ، انها نظرة مسروقة من عمق الفيض الروحي في عالم الملكوت ، انها اشبة بتسجيلية بسيطة

ليوميات ما ننتظره جميعنا بعد فناء البشرية ، لكنها روح انسان شاعر ، غاص في اعماق الذات المتخمة بغلوائها الثائرة .
 
عفوكَ ربي 
قامتْ قيامتُهم 
سيأتونكَ عندَ سدرةِ المنتهى 
ولكنْ كما رَسَمَتْهُم النيرانُ
لا كما خلقتَهُم في أحسنِ تقويمٍ 
 
نظرة تأملية وإحساس بالفاجعة ، بما شكّلته من ضغط نفسي فاعل ، جعلت الشاعر د. سعد ياسين يوسف ، يلتقط انفاسه بهدوء وسكينة ، يوشّح نظرته الابتهالية المترامية الى السماء بتركيب ( عفوك ربي ) استعداداً منه لطرح ما آلمه ، فالنداء / صيغة ممهدة لحمولات ضاغطة ، ثم يصف قوّة الحدث ( قامت قيامتهم ) وهي استحضار مسبق وفق فيه الشاعر ، في تأسيس المنولوج

والتماهي الحكائي / انه التماهي القصدي ، بإستراتيجية البوح / البوح بالآم الذوات والأصوات التي تغذّي حركية الحدث ، وهي تنطق بأورامها دون ذنب او مسوغ ،  لذا نجد الشاعر صوّر فاجعة " الكرادة " ضمن شخوصها التكوينية ، بصور متعددة (حاملينَ هداياهم .... أطفالاً بلا عيون /  فتياتٍ بقلوبٍ متفحمةٍ / شباباً متفحمين / سيأتونَكَ آباءً وأمهاتٍ ) تمهيداً منه

للولوج في انشغالات تعبوية ، توصلنا الى نقطة الحدث ، ومحاولة تحريك الاقطاب ضمن تدرّجات تفاعلية متناسقة .

حاملينَ هداياهم ....
أطفالاً بلا عيون ٍ
تُشْرقُ شمسُ الكركرات ِ
من محاجرِهم 
يحملونَ ملابسَ بيضاءَ
بلونِ الفرح ِالقتيلِ 
لمْ تُلبس بعدُ ، ودمى مبتسمةً
بعضُهم مازالوا متعانقينَ 
فلا تؤاخذْهم ...
لم يبلغوا سِنَّ الحلُمِ بعدُ 
وكانَ عصياً على المنقذينَ فكُ عناقِهمُ ،
 
هكذا / حاول ان يصوّر الشاعر الطفولة التي وئدت ببشاعة ومأساوية وظلامية ، الطفولة التي صورّها الشاعر اخذت حيزاً كبيراً لديه ، كونها نواة مؤثرة حافزة في جذب التداخلات ، وتحريك السكونية بمجرد المساس بها ، الطفولة في الفاجعة تحوّلت الى تراكمات تصورية متضخمة انسانياً :  اطفال يمسكون بهدايا العيد المسروق منهم ، انهم بلا عيون ، وأية عيون هذه

، العيون الملطخة بضحكات وفرح مسلوب من الظلام ،  طفولة تعتزّ بحمل ملابسها البيضاء ، دلالة / النقاء والصفاء الرّوحي الذي اعتمده الشاعر ، الطفولة التي تعانق الدمى وتبادلها شعوياً .. وذا / تأكيد على صغر السنّ ، انه عناق طفولي متجذّر/ متلاصق .. يتأرجح بدوامة الحياة الضارسة التي طحنت كل شيء .

فتياتٍ بقلوبٍ متفحمةٍ وأغانٍ محترقة ٍ
يحملنَ صورَ من أحببنَ 
وآخرَ رسالةِ حب ٍ سمِعْنَها
أربطةَ عنقٍ جديدة ٍأشترينَها
قبلَ لحظاتٍ 
... ...
غفرانَك إن جئنَ بلا شالاتٍ .. 
بضفائرَ أكلتها النيرانُ ..
أشجاراً تعرجُ إليك بطينِ جذورِها
 
انها الانتقالات التصويرية التي حاول الشاعر د. سعد ياسين ان يضغطها ، ضمن تدرجات متنامية من اجل تشكيلات ذهنية اتساقية ، مستعينا بخياله الخصب الذي يحاول من خلاله التلويح بالواقع الحسي ممثلا في المشاهد الملتقطة من الحياة اليومية والواقع الذهني ، ويشمل : 1 / المؤثرات النفسية والانفعالات العاطفية بالمحيط الخاصّ والعام ، 2 / المؤثرات العقلية وما

يتصل بها من الموهبة ، والثقافة ، والتجربة الخاصة ، وكل هذه المصادر تتفاعل فيما بينها حين يلمّ بالشاعر موقف شعوري ما ، أو انفعال بحدث من الأحداث ، الشاعر يمتلك قدرة على ابتداع صور في الذهن لأشياء غير مدركة بالحواس ، وعلى قدرة الجمع والتنسيق بين الأشياء المتناقضة ، أو التي لا يربط بينها رابط ما .
فتيات كل ما حولهن تحوّل الى سواد قاتم ، دهاليز من العتمة ، الممزوجة ( يحملنَ صورَ من أحببنَ ) بصور حياتية تذكارية لهن ، ( وآخرَ رسالةِ حب ٍ سمِعْنَها / أربطةَ عنقٍ جديدة اشترينها

) ربطة العنق بدلالتها التوثيقية تشكل جزءاً من الموروث الزي التقليدي عند الرومان وهي رمز انتمائي لجماعة معينة ، كما استخدمها الجنود الكرواتيون هذه الربطة ، عبارة عن ( شال ) ملفوف حول العنق حيث كانت تعلقها النساء في اعناق ازواجهن وأحبائهن اثناء سوقهم الى جبهات القتال كعلامة على الحب والوفاء.

د. سعد ياسين يوسف ، نفسياً تكتظ فيه لواعج الوجع من جراء ما حدث ، أجده صارخاً بانكفاء الذات ، متضرعاً بطريقة الابتهالات الصوفية، ان يضمد اوجاعنا بعد ان اتخمت بنزيف الموت والدمار ،  انها قيامة ( الكرادة ) ، وهي تغصّ بدياجير التورمات الظلامية ، كيف لا ، وهي ابادة للإنسان بطريقة قسرية متناهية الدقة ، الفتيات ما زلن يحلمن في خضم النيران الاكلة ما بقي من ضفائرهن ، انهن اشجارُ هذه الارض المتجذّرة بطينتها الحرّة الكريمة  .

شباباً متفحمين وأيدٍ مفتتةً
لكنَّهم يحملونَ بما تبقى منها 
قنانيَ عطرٍ لمْ تُفتح بعد ..
اجتهدوا كثيراً في الحصول ِعلى ثمنها .
 
التصوير الالتقاطي الثالث / صورة الشباب وهم متفحمون من اثر النيران المستعرة ، والتي حولتهم الى اشلاء مشوّهة ، لكن هذه الصورة تحمل في ثناياها انهم عبق لقناني عطر ، هذا الشعور الحسي المتنامي بقوّة الفاجعة والحدث ، منحنا هذا التصوّر رؤية تخيلية للإحساس بطعم الشهادة والراحة الابدية وهي تتحول ... ( قنانيَ عطرٍ لمْ تُفتح بعد ..) حيث استطاع الشاعر ببراعة متناهية ان يحفز في ذاكرتنا - ارتباطياً -  لنوع من العلاج يُعَدُّ علاجاً حديثاً يسمى العلاج بالعطور ( الأروماثيرابي ) وقد اكتشفه مصادفة عالم فرنسي يدعى " رينيه جيتيفوسيه " عندما احترقت يده ولم يجد أمامه إلا زيت الخزامى فغمس يده فيه ، بعدها شعر بزوال الألم ، وما أدبنا العربي ببعيد عن هذا ..اذ / ربما لا يخطر على بال أحد أن العطر زكي الرائحة كان نذير شؤم ! هكذا كان الحال في ايام عصر ما قبل الاسلام او ما يسمى بـ ( الجاهلية ) عند بعض قبائلها. فيقال : ( أشأم من عطر منشم) و " منشم " حسب رواية الأصمعي امرأة تسكن مكة وتمتهن العطارة ، حيث تبيع العطر والحنوط . وكان القوم إذ أرادوا دخول معركة غمسوا أيديهم في عطرها ، فيقال إنهم دقوا عطر منشم استعداداً لحرب ضروس .

سيأتونَكَ آباءً وأمهاتٍ
تجمدتِ الصرخةُ على وجوههِم 
لكنَّ صوتَ ترددِها يسبقُهم اليكَ 
رحماكَ ...
فلا تردَّهم .. 
ولا تردَّ هداياهُم 
لأنهم ومع تراتيل ليلة ٍ
أسميتَها " القدرَ"
أتوكَ من مكانٍ بعيد ٍ،
بعيدٍ جدا ً...وقريبٍ جداً 
أتوكَ من ....
" الكرادة "..........
 
إنها ( خاتمة ) لفاجعة المجهول ، وهي تصوّر مشهداً حيّاً لصورة الاب والأم ، وهما يلوكان مرارة الفقد والوجع والحزن ، في وجوههم رسمت تلك الملامح وقد تجمّدت الصرخة عليها ، انه تصوير برع فيه الشاعر في نقل مشهد حياتي مؤلم ، هذا الوجع مُزِج لا ارادياً بصوت مترنم ، خال من الانانية والكره والحقد ، صوت مغموس في رحم الفاجعة ، ملتمساً العطف والرحمة الالهية ، التي كانت الاقرب ، هنا / نشعر بالعجز الانساني - نقطة ضعف - أمام ملكوت السماء ، هذا الانسان لم يعد يملك أي سلاح للردّ سوى الغوص في مناجاة وتراتيل وابتهالات ، علّ جناح الرحمة يطفئ فينا غلواء الغضب والفاجعة والانكسار ، انها ليلة لم يجد الشاعر اجلّ من ( القدر ) لما بينهما من مداخلات ارتباطية ، انها ( معراج الكرادة ) التي ارادها د . سعد ياسين يوسف ان ينعش الذاكرة بتسميتها ، وبما امتلكه من قدرة تصويرية فذّة مكنته من تطويع الحدث وتناميه – داخلياً - ليزجّ تلك التراكمات انسانياً بغصّات ولوعات وأوجاع ، صاغها حسب رؤيوية  وفق بها ، حيث انها شكلت لديه تناسقية في تفعيل الحدث واقعياً .