مدينة النمرود التاريخية

تنتظر مدينة النمرود"٬ جنوب الموصل٬ ما يشبه "المعجزة"، لمحو ما لحق بآثارها النادرة من دمار، على يد تنظيم "داعش"، وبدأت وزارة الثقافة العراقية الخطوة الأولى في تحقيق المعجزة، بتنفيذ برنامج أطلقت عليه اسم "حفظ أولي"٬ لاستعادة بريق المدينة الأثرية. وتبدأ الخطة بإعادة الحراس٬ الذين تم تعيينهم من جانب الوزارة للعناية بالمدينة والحفاظ على بقايا الآثار المدمرة٬ وفق عالم آثار في الوزارة.
وفي 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي٬ حررت القوات العراقية مدينة النمرود التاريخية٬ والتي تبعد عن الموصل نحو 30 كيلومترًا، جنوبًا. ويقول عالم الآثار حميد الشمري إن خطة برنامج "حفظ أولي" انطلقت بالفعل، وتتضمن وضع سياج كبير حول المدينة٬ ونقل أجزاء من المنحوتات المحطمة إلى مكان آمن، وبناء ملاجئ لحماية الهياكل المحطمة.


ويقدر "الشمري" نسبة الدمار٬التي لحقت بالمدينة بـ70%٬ وبالنظر إلى ما تبقى منها تعد هذه النسبة "متفائلة"٬ لافتًا إلى أنه كان هناك ما يتراوح بين 1800 و1200 موقع أثري مسجل داخل المنطقة التي كان يسيطر عليها التنظيم.
ومدينة النمرود التاريخية لها العديد من الأسماء الأخرى، بينها كالح٬ وكالخو٬ أما اسم "النمرود" فهو على الأغلب٬ وفق المؤرخين٬ اسم حديث، استمد من الشخصية التاريخية المعروفة باسم النمرود٬ والتي جاء ذكرها في قصة نبي الله إبراهيم.
وتأسست المدينة في القرن الـ13 قبل الميلاد٬ وصارت بعد ذلك عاصمة للإمبراطورية الآشورية٬ في عهد الملك الآشوري آشور ناصر بال الثاني٬ وفي العام 612 قبل الميلاد، دمرت المدينة على يد كل من الميديين٬ والكلدانيين، كما تعرضت للخراب والنهب على تنظيم "داعش".
ويروي تفاصيل تفجير النمرود٬أحد الحراس الفارين من "داعش"٬ ويسكن الآن في مدينة الأعظمية٬ شمال غربي العاصمة بغداد٬ وهو رجل طاعن في السن، ويدعى سلام رشيد، اضطر إلى دفع 26 مليون دينار عراقي (20 ألف دولار)٬ إلى وسيط يعمل مع التنظيم، للخروج من الموصل٬ الصيف الماضي٬ والتوجه إلى أربيل، ومنها استقل الطائرة إلى بغداد.


ويقول "رشيد": "في الخامس من مايو/ أيار 2015 طافت سيارة تحمل مكبرات للصوت الطرق الترابية المحيطة بالمدينة الآشورية الأثرية٬ُ مصدرة تعليمات لسكان المدينة بفتح نوافذهم لئلا يتهشم زجاجها جراء الهزة الأرضية الناتجة عن الانفجارات.
ويضيف: "قام عناصر التنظيم من ذوي الملابس السوداء بوضع براميل ممتلئة بالمتفجرات وسط الهياكل والأفاريز والمنحوتات٬ التي تم بناؤها قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام٬ ثم فجروها لتدمر الموقع، وينتشر الحطام لمئات الأمتار".
ويصف حالته أثناء التفجير بالقول: "أجهشت بالبكاء بلا توقف٬ وتمنيت الموت قبل أن أشهد هذه اللحظة٬ فهي كل حياتي التي عشتها٬ لكني لم أتمكن، ومعي بقية الحراس، من الوقوف أو منع عناصر التنظيم المتطرف من القيام بالتفجير٬ ولو حاولت، ولو بالإشارة، لتم قتلي فورًا".
وتعتبر النمرود أحد أهم الكنوز الأثرية في العالم٬ وتضم قصر الملك الآشوري آشورناسيربال الثاني٬ بتماثيله الحجرية العملاقة، التي تصور الأولياء ذوي الأجنحة المعروفة، باسم "الثور المجنح"٬ بالإضافة إلى معابد نينورتا وإنليل٬ وخضعت المنطقة لسيطرة "داعش" في منتصف 2014.


ويرى تنظيم "داعش" أن أي شيء سابق للحقبة الإسلامية وثني٬ حيث قام بتدمير ونهب هذه المواقع العريقة بشكل ممنهج٬ بالإضافة إلى تلك التي تنتمي إلى أقليات دينية، كالمسيحية والإيزيدية٬ كما يرفض "داعش" أي شيء يخص طوائف إسلامية لا تتفق مع معتقدات التنظيم .
وتقول عالمة الآثار العراقية لمياء الكيلاني إنها اطلعت على حجم الدمار الذي لحق بالمدينة٬ ووصفت ما حل بها بـ"الدمار المرعب". وعن ما سجلته خلال تجوالها في المدينة٬ تقول "الكيلاني": "لا تزال بقايا التماثيل مكدسة٬ حيث تركها التنظيم أمام القصر٬ وفي أماكن أخرى كان التدمير كليًا٬ فلم يعد في المنطقة سوى حطام وقطع من الحجارة المكتوب عليها باللغة المسمارية".
وتضيف: "ربما يكون هناك، على الأقل، بعض الأسباب القليلة للتفاؤل٬ لأن الحطام لا يزال في الموقع٬ لقد اعتقدنا أننا فقدنا كل شيء٬ ولكننا قد نتمكن من إنقاذ شيء ما في النهاية"، غير أنها تحذر في الوقت نفسه من عدم وجود ضمانات لبقاء أنقاض هذه القطع الأثرية٬ التي لا تقدر بثمن، حيث هي الآن٬ فالمدينة معرضة لنهب من النوع الذي طال المواقع الأثرية العراقية".
وتضيف عالمة الآثار العراقية أن المعركة لا تزال مستمرة في المنطقة٬ ومن الممكن أن تتعرض للسرقة أو التدمير على يد أولئك الذين لا يأبهون بتاريخ العراق٬ مبينة أن هذا مصدر قلق كبير بالنسبة لها.
ونشر تنظيم "داعش" مقطع فيديو دعائي تم تسجيله خارج قصر آشورناسيربال الثاني٬ يُظهر مقاتلي التنظيم أثناء استخدامهم أدوات التقطيع والمطارق الثقيلة لتدمير الأفاريز والمثاقيب، والمعدات الثقيلة لهدم التماثيل.


وقلل محمد البيضاني٬ الأستاذ في قسم الآثار في كلية الآداب، في جامعة بغداد٬ من أهمية برنامج "حفظ أولي"، الذي تنفذه وزارة الثقافة في مدينة النمرود. وقال إن القيام بهذه الخطوات لا قيمة له٬ لأن الدمار الذي خلفه تنظيم "داعش" في المدينة بمثابة تدمير كارثي لها.
وأشار إلى أن "داعش" هاجم الآثار التاريخية بشكل ممنهج٬ بما فيها تلك الموجودة في متحف الموصل٬ لأغراض دعائية٬ بينما في الوقت نفسه كان مسلحوه ينهبون، ويبيعون ما ينهبونه للمهربين. وبالعودة الى خبير الآثار حميد الشمري٬ فإنه يرى إمكانية لاستعادة مدينة النمرود وآثارها الآشورية بالكامل.
وقال إن متحف برلين مر بتجربة مشابهة، باستعادة بوابة عشتار بالكامل، بعد أن نقلها من العراق إلى ألمانيا على شكل عشرات الآلاف من القطع الحجرية الصغير٬ ومئات القطع الزجاجية.