فرانسواز جيلوت في منزلها في مدينة نيويورك

تمتلك فرانسواز جيلوت خط صارم مع المقابلات الصحفية، فهي تفترض دائما أن الصحافة تسعى لهذه المقابلات بسبب شيء واحد وهو علاقتها ببيكاسو التي بدأت قبل 70 عاما واستمرت لمدة عشر سنوات، وأنجبت منه طفلين في هذه الفترة قبل أن يرحل بنفسه، وتقول " عندما يعرف الناس عنك شيء واحد، يجبرونك دوما على التكلم عنه."

وتبلغ اليوم من العمر 94 عاما ولكنها تبدو أصغر بكثير من عمرها هذا، وتبدي الكثير من الرسمية في مقابلاتها وتجيب بالأغلب بالنفي وكأنها تتعمد أن تنفي عن نفسها كل معرفة مسبقة، وتحب أن تتحدث عن بيكاسو باسهاب لكن ليس كأنه العنصر الوحيد في حياتها ولكنه من بين عناصر أخرى لحياة رائعة قد عاشتها والتي ما تزال أدلتها تتوزع في أنحاء شقتها في منهاتن العليا حيث تعلق على الجدران كل لوحتها، وبالرغم من أن شقتها لا تبعد كثير عن شارع برادواي الا أن القليل من العالم المعاصر قد زحف اليها، فما تزال مديرة المنزل ترتدي الزي الرمسي وتقدم القهوة في فناجين صينية وعلى عربة بعجلات، وهو مشهد يعود الى أكثر من 100 سنة ماضية، وتقول جيلوت " حياتي بالضبط هنا كما كانت عليه في باريس، انا اعيش حياتي الخاصة بطريقتي الخاصة اينما كنت."

ونظر الى جيلوت باستمرار على انها "حبيبة بيكاسو" أو "صديقة ماتيس" ولكن هذه الفنانة ولدت في باريس وهي الابنة الوحيدة لاب ثري وأم فنانة والذين قدموا لها وتوقعوا منها الكثير، وبدت وكأنها من الاشخاص الذين يعتبرون من خارج المكان والزمان ويتكدرون بسبب مشاكل جيلهم، ومن المثير للاهتمام كيف استطاعت امرأة التعامل مع هذه المخاوف والتي مازالت قائمة عندما تتحدث عن موهبتها بدون خجل أو اعتذار، قائلة " كنت مدهشة."

واعتادت جيلوت على صدم الناس، وتتذكر أول مرة قعلت ذلك عندما كانت في سن الخامسة من عمرها وكانت قد بدأت بالفعل الذهاب الى متحف اللوفر مع معلمتها، وفي ذلك العام بينما كانت في عطلة في جبال الألب اشارت الى بعض جوانب المشهد الى والدها، وتوضح " لقد أدهشتني حقيقة الارتفاع الذي كنا عليه، كان هناك الكثير من الأشجار الرمادية الدامنة ومعظمهما من التنوب المروج الخضراء الحية، وأعتقد أن هذه الالوان معا كانت مثيرة للاهتمام فسألت والدي هل يرى الأشياء بنفس الطريقة التي اراها." وغضب والدها من ملاحظتها والقى على سمعها محاضرة عن شبكة العين، وأن كل المشاهد تبدو واحدة للجيمع، فقلت له " ليس هذا ما قصدته بالضبط، ولكني لم أكن أعرف كيف أعبر عن نفسي، هذه ليست اداة للرؤية بكل كانت نتيجة لعكس نفسيتي وشعوري، في الخامسة من العمر لم أكن استطيع طرح هذه الاسئلة."

وفهمت والدتها ما كانت تقصده نظرا لأنها كانت فنانة نموذجية وشجعت ابنتها على ان تمتلك مهنة لنفسها لم تستطيع هي أن تملكها، وكان هذه الام خزافة موهوبة ولديها معرفة رائعة في تاريخ الفن، ولكنها واجهت شخصية والدها الصلب الذي رفض خلال الأربعينات التعاون مع النازيين ولم يكن يريد لابنته أن تصبح فنانة، وتقول " كان يعتقد أنني سأصبح فيزيائية ولكني رفضت تماما، قلت له خيالي ليس في هذا الامر فرفض، فقررت دراسة القانون."

وبدأت بدراسة القانون في أواخر سن المراهقة ولكن قبل أن تتخرج غزا الألمان باريس واعتقلت لفترة وجيزة على يد الشرطة الفرنسية لعمل سياسي بسبب وضعها بعض الزهور على قبر الجندي المجهول ونتيجة لذلك وضعت ضمن قائمة المحرضين والذي أعدم بعضهم لاحقا على يد الالمان، وقضت فترة من حياتها تذهب الى مركز الشرطة كل يوم وتوقع على استمارة والتي تعتقد انها كانت طريقة لتخويف والدها في ذلك الوقت، ولم يكن حقيقة انها طالبة في كلية الحقوق يساعدها، وتشير " الالمان لم يحبوا أن يدرس الفرنسيون القانون." وهكذا تركت الكلية لأسباب أمنية ظاهرية ولكنها في الحقيقة بدأت في حياتها كفنانة، وتابعت " وجدت في ذلك الوقت مخرجا، كي اخطوا خطوة مزدوجة."

وأخذت تبحث عن محاولاتها الاولى للرسم فوجدت لوحة قديمة رسم عليها خط عندما كان عمرها 12 عاما، وما لفت نظرها انها كانت رسمة تدل على شخص كبير وليس على طفل على الاطلاق ، ولكن لاحقا عندما غزا الألمان فرنسا أرسلت والدتها مجموعة من الاغراض الثمينة الى مكان امن خارج المنزل كان من بينه اللوحات المفضلة وبالتالي ضاع كل شيء.

وتبين " كل أعمالي المبكرة اختفت، ولكن هذا لا يحم فقط كانت هذه مجرد تجارب، كنت أعرف كيف ارسك، ولم أكن يوما احد الهواة وكنت أعرف البعد الثالث وكان الرسم سهلا بالنسبة لي، كنت أعرف دائما ما أريد، ولم أكن أعرف أن أقول ما اريد."

والتقت ببيكاسو في مقهي عام 1943 عندما كانت جيلوت في عمر 21 وبيكاسو في عمر 60، وكانت قد صنعت لنفسها اسما في مدرسة للفنون وأعمالها كانت تباع، مما تسبب في خلاف بينها وبين أقرانها من الفنانين الذين لم يكونوا يبيعون اعمالهم، وتشير " أتي والدي وقال انني يجب أن اصبح محترفة ولم يكن لي أي خيار ويجب أن اعترف انني مدينة له بالكثير، وكان علي أن افهم مشكلة المال."


وأضافت " جدتي لأبي فقدت زوجها مبكرا، وكانت أرملة لخمس أطفال ولديها عقل رائع ، ولكن ابي كان له حس بالكارثة، ففي وقت الكارثة مع هتلر كان علي أن اثبت نفسي انني مثل الصبيان وأن أكون مسئولة عن نفسي، وهذا ما قمت به، أذكر أنني كنت اركب الحصان جيدا جدا، وكان والدي فخورا بأدائي الجيد  في هذا الاطار."

وأخبرت جيلوت بيكاسيو في أول لقاء لهما انها رسامة فقال لها " هذا أكثر شيء ظريف سمعته في حياتي، فالفتيات مثلك لا يبدون رسامات أبدا." وكانت في البداية علاقتهما كصداقة فكرية كبيرة والتي لولا الحرب لم تكن لتتحول كعلاقة رومانسية، فتقول " لانني في ذلك الوقت اعتقدت انها كبير جدا وانا صغيرة جدا، الا أنا الرجال في مثل عمري اختفوا ولم يكن ذلك وقتا عاديا فقد كان وقتا خسرنا فيه كل شيء وكان وقتا للموت، فتساءلت هل أريد أن أفعل شيء ما لنفسي قبل أن أموت؟ وكان النتيجة انني أريد"، ولم يكن والديها ليبراليان الى هذا الحد، لذلك بدأت تخفي علاقتها مع بيكاسو والذي كان متزوجا في ذلك الوقت من اولفا خوخلوفا، وبعد بضعة سنوات انتقلت جيلوت للعيش معه وأنجبت منه طفلان هما كلود وبالوما، وتصف علاقتها به " لم يكن حبا عاطفيا كما نفهمه بل كان حبا فكريا أو حبا جسديا ولكن في النهاية ليس حبا عاطفيا، فقد كان لكل منا سبب وجيه في أن يعجب بالاخر."

وأجابت عند سؤالها اذا ما كان السبب حماية فنها هو الذي دفعها للزواج ببيكاسو قالت " لا فذوقي في الرجال كان مختلفا تماما عن بيكاسو، ولكن كان لدينا الكثير من الأشياء التي نعمل عليها مما جعلنا متوافقين ولكن من ناحية السن والحكمة كنا مختلفين."

وتعتبر ان تأثير بيكاسو على أعمالها كان سيبقى كما هو حتى وان لم تلتقي به فيه قد دراست أعماله كلها، ولا تعتبر انها قلدته أو انها لم تأخذ لنفسها منحاها الخاص في عملها، وتقول " الحب يتداخل في كل شيء، ولكن القلب في الجهة اليسرى والدماغ على الجانب الاخر، وعلي أن اعترف انني لم أغرم بأي شخص أنظر اليه انه خطتي الوحيدة، وفي الحقيقة اعتبر انها فكرة سيئة للمرأة أن تتنازل، ربما كنت أعلى قليلا من بنات جيلي، واسترسلت " أعتقد انه لم يعرفني جيدا بالرغم من اني كنت اعرفه فانا غي غاية السرية مهذبة ومبتسمة ولكن هذا لا يعني انني موافقة او أفعل انني سأفعل ما قلت انني سأفعله، فهذه كلها كانت شاشة، وكان يعتقد أنني سأتصرف مثل باقي النساء في حياته، وكان هذا رأي خاطئ تماما، فكان لدي أفكاري الخاصة، وفي الوقت الذي رسم لها بيكاسو لوحة سماها " صورة المرأة" بدل من ان يطلق عليها اسمهاا كان قد اصبح باردا واستبدادي على نحو متزايد وكانت هي تفكر في مغادرة المنزل بالرغم من أن الامر استغرقها أكثر من سنتين لتتخذ القرار النهائي، وتقول " أردت المزيد من المودة وليس الحب ولكن على أي حال ان راضية." ولكنها كانت نهاية مريرة، فقد التقيا بعدها مرة واحدة عندما سلمته الأطفال للزيارة، اشارت " لم يكن تركه حرية فلم أكن بالأصل اسيرة، وكان لدي ارادتي الخاصة وتركته بمشيئتي، بقيت معه بارداتي وتركته بارادتي أيضا، عندها قال لي " لا أحد يترك رجلا مثلي" فرددت عليه سنرى."

وحاول بيكاسو أن يدمر سمعتها في جميع الانحاء في مهنتهم وتعلق على هذا " وماذا في ذلك، في الحقيقة سأكون غبية ان توقعت شيئا اخر، في الحياة لديك مقياس والا ستكون غبي، مقياس لكمية الخطر الذي تستطيع أن تواجهه، وان لم أكن أعرف ما سأواجهه فلم اكن سأنجو منه."

وانتقت جيلوت الى أمريكا في محاولة للهروب من دائرة بيكاسو، وبقي عمليها يباع، وفي عام 1970 تزوجت كوناس سالك العالم الرائد الذي اخترع اول لقاح لشلل الأطفال وبقيت معه حتى وفاته عام 1995، واستطاعت أن تكسب عيشها من فنها، ووصلت احدى لوحتها في مزاد درا كريستيز للبيع بسعر 100 ألف دولار.

وتعرض في منزلها لوحة اشترتها مؤخرا والتي كانت قد رسمتها في لندن في الستينات، وتجمع بين الرمزي والواقعي والتي تصور الاعمدة المنهارة من الأساطير اليونانية مع الطيور الجارحة، وتقول " اسميها الماضي الحاضر، فكل يوم تجتمع المتناقضات هناك الدمار والهدم، وهناك القليل من الفلسفة في هذه اللوحة"، وما تزال ترسم كل يوم في حياتها وتعترف انها كل يوم تصل الى الهزيمة والنجاح بفرص متساوية، فهي شرسة وليست سهلة الطباع، وتقول انها لا تحب أن تقاتل الا اذا اضطرت الى ذلك.