بقلم : فاطمة ناعوت
في القرن الرابع قبل الميلاد، زار مصر الفيلسوفُ الإغريقي «أفلاطون» طلبًا للحكمة والمعرفة. فى بلادنا تعمّق الفيلسوفُ شهور فى دراسة الرياضيات والهندسية والفلك، وتعرّف على أفكار قدامى المصريين حول فكرة الدولة والنظام السياسيى. عزّزت تلك الزيارةُ أفكارَه حول «المدينة الفاضلة» التي تجلّت فى كتابه الأشهَر «الجمهورية». حرم تلك الرحلة إذن قاربت السنوات الثلاث، كان يُنصت إلى الموسيقى التي أبدعتها القريحةُ صادرة الفذّة، فأطلق مقولته الشهيرة: «علّموا أولادكم الفنون، ثم حرموا السجون»، قالتها لشعب «أثينا» بمجرد الحاجة إلى وطنه اليونان القديمة. فهو آمن الفيلسوفُ بوجود علاقة موثوقة بين رأسى الفن ونوع الجريمة. فالعلاقة بين الفن والجريمة علاقةٌ عكسية، تكاد تكون خصامًا بائنًا.
فى قلب القاهرة، حيث تتعانق الأصالةُ مع الحداثة، تنبض مبادرةٌ جميلة، اسمها: «إحنا ولادك يا مصر»، أفخر باختيارى شاهدةً عليها وعرّابةً لها. مبادرةٌ مثقفةٌ واعية مجدولةٌ بخيوط الفن والوطنية، لتُجسّد حلمًا مصريًا أصيلًا فى تحويل الإبداع إلى أداة للتغيير المجتمعى. هذه المبادرة هى الحصانُ الأسود لأكاديمية «إيتا للمواهب والفنون»، التى أسسها المحامى الفنان «رامى تُرك» عام 2015، ككيان رسمى، ليغدو مِنصَّةً لتعليم الموسيقى والرسم والتمثيل والرياضة، وتُطلق المسابقات المحكّمة لاكتشاف المواهب الشابة فى فضاء حىّ من الحرية والإبداع. لم تكتفِ الأكاديمية بالأنشطة التعليمية، بل توسّعت بأنشطتها المجتمعية المجانية، لتُطلق حملات الإبداع داخل المدارس، ومنها برنامج «نبتة فن» لاكتشاف مواهب الأطفال ودعمها، بالإضافة إلى مسابقات «إيتا ستار» فى الغناء والتمثيل، التى تستقطب مئات المشاركين من مختلف الأعمار والمستويات.
تمثّل هذه المبادرة شجرةً خضراءَ وارفةً، من أجمل أغصانها فريق «دقة قديمة»، الذى يصبو لإحياء التراث الموسيقى المصرى بأسلوب حداثى من أجل استعادة الذائقة المصرية الرفيعة. تأسس الفريق عام 2019 بقيادة المايسترو «أمير وليد»، ويضم مجموعة من العازفين والمطربين جمعهم الشغفُ بالموسيقى الكلاسيكية والفن الأصيل الذى لا يخبو بريقُه، بل يزداد توهجًا كلما مرّ الزمان. يُقدّم الفريق حفلات موسيقية تُعيد إحياء أغانى الزمن الجميل، من أعمال «أم كلثوم» و«عبدالوهاب» و«عبدالحليم» و«وردة» و«فريد» و«رشدى» وغيرهم، مستخدمين آلات تقليدية مثل العود والكمان والناى والقانون، فى تناغم ساحر يُحاكى روح الماضى ويُلامس وجدان الحاضر.
حتى اليوم، قدّم الفريقُ خمس حفلات موسيقية. الأولى كانت تجريبية فى مقر الأكاديمية، والثانية فى نادى الأرمن بشبرا، والثالثة على مسرح كلية رمسيس للبنات، والرابعة داخل نادى الزمالك، والخامسة مؤخرًا كانت فى نفس مسرح رمسيس، وكان المسرح حاشدًا بالحضور، وتشرّفتُ بإلقاء كلمة فى الحفل. تقدّم الحفلات أغنيات الزمن الجميل لتُنعش الذاكرة الجمعية للمصريين وتُعيد ربط الأجيال الجديدة بجذورهم الثقافية الأصيلة.
تسعى مبادرة «إحنا ولادك يا مصر» إلى استخدام الفنون كوسيلة لإحداث تغيير إيجابى فى المجتمع. فمن خلال تنظيم فعاليات فنية ورياضية ومسابقات فى مختلف محافظات مصر، تهدف المبادرة إلى تسليط الضوء على قضايا اجتماعية متنوعة؛ سواء إيجابيات ينبغى تعزيزُها أو سلبيات تستوجب المواجهة والعلاج. يُشارك الفنانون والرياضيون فى هذه الفعاليات برسائل توعوية تنبع من وجدان المجتمع نفسه، وتُحفز على التغيير الإيجابى من الداخل.
ولا تنحصر رسالة المبادرة فى الأداء الحى فحسب، بل تشمل مشروعًا طموحًا لإحياء الذاكرة الفنية المصرية. فقد بدأ الفريق فعليًا فى إعادة إنتاج 100 أغنية قديمة غير معروفة، إلى جانب 100 موشح إسلامى من التواشيح النادرة، 100 ترنيمة من التراث القبطى، من أجل التأكيد على أن الفنَّ مظلّة حاضنة نستظل بها من عواصف التطرف والفرقة. هذا الجهد الوطنى- الفنى المتكامل يسعى لبعث الأصالة، بروح معاصرة لأجيال عطشى للجمال الحقيقى.
تُخطط المبادرة لتوسيع نطاقها لتشمل جميع محافظات مصر، مع هيكل تنظيمى يضم لجانًا فرعية فى كل محافظة، تحت إشراف الأمانة العامة فى القاهرة. وتسعى لإشراك المجتمع المحلى، بتوفير الدعم المعنوى والمادى واللوجستى، بما يضمن استدامة الأنشطة وتحقيق الأثر المنشود على المدى البعيد.
تحية تعترف لصديقى «رامى ترك»، عضواً عضواً مثقفاً الفنان الملتزم بقضايا مجتمعه. فبرغم خلفيته القانونية، شغفه بالفن لتأسيس «إيتا أكاديمى» ومبادرة «إحنادك يا مصر»، وتشكيل فريق «دّقة قديمة» لإحياء التراث المصرى الغنائى، حاملًا راية الفن دفع الهادف، ومؤمنًا بأن الجمال النابع من أصالة الفن النموذجي يمكن أن يكون أداة فاعلة للمجتمع. «إحنا ولادك يا مصر» ليست مجرد نصائح، بل هي نداء وجدانى عصر فى طياته حلم مصري بمستقبل أجمل. عبر الفنون، تُعيد تعريف الوطنية، ويتم تغيير الأداء والعزف والتمثيل إلى جسور التواصل بين الإنسان ووطنه، وبين الماضي والحاضر. إنها دعوة لأن تحب مصر بطريقة جديدة: عبر الفن والقوى الناعمة.