عن ظاهرة أحمد فؤاد نجم

عن ظاهرة أحمد فؤاد نجم

عن ظاهرة أحمد فؤاد نجم

 صوت الإمارات -

عن ظاهرة أحمد فؤاد نجم

جلال أمين
بقلم: جلال أمين

فى إحدى مسرحيات برناردشو، الكاتب الأيرلندى الشهير، يدور حوار بين رأسمالى كبير وبالغ الثراء، وبين شاب يسارى فقير وشديد الحماس. لا يكف الشاب عن التنديد بذلك النظام الذى يسمح بأن يوجد الفقر المدقع إلى جانب الثراء الفاحش، بينما يدافع الرأسمالى عن هذا النظام الذى مكّنه من تحقيق كل هذه الثروة. أثناء الحوار يقول الرأسمالى للشاب اليسارى: «هل تعرف ما هو الفرق الحقيقى بينى وبينك؟ إن كلا منا يكره الفقر كرها شديدا لا يطيقه، ولكن بينما تقول أنت لنفسك عندما تصادف شخصا فقيرا «إننى لا يمكن أن أسمح قط بأن يستمر مثل هذا الشخص على هذه الحال من الفقر»، أقول أنا لنفسى إذا رأيت نفس الشخص: «إنى لن أسمح قط بأن أصبح أنا، فى أى يوم من الأيام، على هذه الدرجة من الفقر!».

وقد عرفت فى حياتى من المثقفين المصريين من ينتمى إلى كلا النوعين من الناس. كثير من المثقفين المصريين عانوا من شظف العيش فى بداية حياتهم، فلم تكن فترة صباهم، وربما شبابهم أيضا، فترة سهلة على الإطلاق، فكرهوا الفقر بالطبع، ولكن قضية الفقر ظلت فى نظرهم قضية شخصية، فقضوا بقية حياتهم فى محاولة لتجنب الوقوع فى الفقر من جديد، وقد دفع هذا الخوف الكثيرين منهم إلى مداهنة الممسكين بالسلطة والتقرب من الحكام، الذين يمكن لهم أن يجنبوهم هذا الفقر إلى الأبد.

ولكن هناك أيضا النوع الآخر، أى الذين ذاقوا شظف العيش أيضا فكرهوا الفقر بدورهم، ولكن الفقر فى نظرهم أصبح قضية عامة، فكرسوا بقية حياتهم لمحاولة تخليص المجتمع كله منه. من هذا النوع الثانى من الكتاب المصريين، أحمد فؤاد نجم، ذلك الشاعر الرائع الذى ذاق فى طفولته وصباه طعم الفقر والتشرد، فلم يدفعه ذلك قط إلى بذل ماء الوجه فى تملق أصحاب السلطة، بل ظل طوال حياته يتحداهم، ويندد بالظالمين منهم، ولا يمتدح منهم إلا من وقف إلى جانب الفقراء، بل وبقدر وقوفه إلى جانب الفقراء، لا أكثر ولا أقل. لم يكن من المنتظر بالطبع أن يجلب له كفاحه أى مكاسب مادية، بل على العكس، قضى جزءا كبيرا من حياته فى السجون، وعلى تتابع الحكام واختلاف مشاربهم. ولكن المدهش أنه عندما نجح فى تحقيق بعض الدخل من شعره وكتاباته، لم يفكر قط فى تغيير نمط حياته، لا فى الظاهر ولا فى الباطن، فاستمر يرتدى نفس النوع من الثياب، ويسكن نفس المسكن، إذ لم يكن تغيير نمط الحياة جزءا من طموحاته.

•••

كنت إذا نظرت إليه، أو تأملت صوره المنشورة فى الصحف أو على أغلفة كتبه، أرى على وجهه آثار ما مر به فى حياته من تجارب ومحن، ولكن لم أر أبدا، لا على وجهه ولا فى سلوكه، أى محاولة للظهور بغير حقيقته (على عكس ما تلاحظ على كثيرين من المثقفين). لم يكن يعطيك أبدا الانطباع بأنه يأخذ نفسه مأخذ الجد (ناهيك عن أخذ كثيرين غيره مآخذ الجد مهما كان مقامهم فى السلطة أو الثروة). انه لا يبخل عليك بعبارة مجاملة، ولكنه لا ينتظر منك أن تبالغ أنت أيضا فى أهميتها، وإلا فما أسرع ما يمكن أن تتعرض له من سخريته.

فى قصيدته الجميلة فى ذكرى جمال عبدالناصر (والمنشورة تحت عنوان «الزيارة») فاجأنا نجم بالكلام عن نفسه وعن أبيه فقال: «أبويا كان فلاح تعيس ــ فى ليلة ضلمة خلّفوه ــ وفى خرقة سودا لفلفوه ــ وفى عيشة غبرا طلّعوه ــ أبويا طلّعتوه حمار ــ ولا مين ما جاش ولا فين ماراحش...».

هكذا يصف نشأته، ولكنه يترك لنا أن نخمن كيف يمكن أن يتحول هذا «الجحش» إلى واحد من أعظم شعراء العامية فى مصر وأكثرهم شعبية. إنى لا أشك فى أن هذه النشأة، عندما اقترنت بموهبة عظيمة، لها علاقة وثيقة بما طرأ عليه فى مجرى حياته، بما فى ذلك صفة أخرى من صفاته التى تميزه عن كثيرين غيره من الشعراء، وهى استحالة إصابته بالاكتئاب.

لقد سمعنا عن إصابة بعض الشعراء المصريين المشهورين بفترات طويلة من الاكتئاب (سمعت ذلك عن بيرم التونسى وصلاح جاهين وصلاح عبدالصبور) ولكن لم أسمعه عن أحمد فؤاد نجم. لقد مر كما نعرف بالكثير من المحن، ليس أقلها الفقر الشديد والسجن، ولكنى أتخيله دائما وهو يقابل هذه المحن بالصبر والسخرية، وكأن الدخول فى حالة اكتئاب من قبيل الترف الذى لا تسمح به ظروفه. كان يبدو لى رجلا يتحلى بقدر عال من الحكمة التى اكتسبها بتسليط ذكائه الوافر على أحداث حياته المدهشة، وجعلته مستعدا لقبول أى شىء دون إسراف فى الغضب، ويتوقع أى شىء من أى شخص. كان ينطبق عليه ما يطلق على الفقراء المعدمين أحيانا من أنه (لم يكن لديه ما يفقده)، ولكنه استمر يشعر بذلك حتى بعد أن غادر فصيلة الفقراء المعدمين. نعم كان لديه ثلاث بنات عزيزات جدا على قلبه. وقد صدر سيرته الذاتية (الجميلة أيضا، والتى تحمل عنوان الفاجومى) بهذا الإهداء البليغ للبنات الثلاث: «يمكن ما تلاقوش فى حياة أبوكم شىء تتعاجبوا به، لكن أكيد مش حاتلاقوا فى حياة أبوكم شىء تخجلوا منه. ده اعتقادى اللى دافعت عنه، ودفعت ثمنه بمنتهى الرضا».

ولكنه كان من الحكمة، فيما أظن، بحيث كان يدرك دائما استحالة الاحتفاظ بهن إلى الأبد. لقد كتبت ابنته نوّارة مقالا جميلا جدا فى رثائه بعنوان «بابا» (الأهرام ــ 23 مايو 2014)، ومن هذا المقال، وكذلك مما سمعناه عن ظروف وفاته، نعرف أنه ترك الحياة بسرعة ودون إنذار، ودون أن يشغل الناس من حوله بطلب الإسعاف أو العلاج العاجل (ناهيك عن العلاج على نفقة الدولة).

تروى نوارة فى مقالها أنه فى مرض سابق اصطحبته زوجته (أم زينب) إلى العناية المركزة، فأصر على التدخين فيها، فلما امتنعت زوجته عن تسليم السيجارة له، قال لها «أنت طالق». ذكرت الزوجة ما حدث للطبيب وقالت له انه «رمى على يمين يا دكتور». فأجابها الطبيب «وده يجوز له أيمانات؟ واحد بيدخن فى العناية المركزة، ويعاكس الممرضات، كل واحدة فيهم تخرج فطسانة على روحها من الضحك.. المفروض ان ده طبيعى؟».

•••

من الملفت للنظر أيضا انه توفى قبل أيام قليلة من حضوره الاحتفال الذى كان يزمع حضوره لاستلام جائزة رفيعة، ليس من الحكومة المصرية بالطبع (التى تأجل تكريمها له إلى ما بعد أن اطمأنت إلى وفاته)، ولا من أمير عربى، ولكن من أمير هولندى قرر أن يخصص جائزة لشعراء أو كتاب موهوبين، من أى بلد فى العالم، تركوا أثرا كبيرا فى حياة شعوبهم، وحازوا شعبية واسعة، وقد قيل بحق إن أحمد فؤاد نجم، رغم أنه لم يحصل على جائزة واحدة من حكومة بلده، فانه حصل على جائزة أعظم وهى محبة المصريين له. ومع ذلك فإنى أعتقد أن الجائزة الأعظم حتى من هذا الحب، والتى حصل عليها أحمد فؤاد نجم بلا أدنى شك، كانت هى رضاه المستمر عن نفسه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن ظاهرة أحمد فؤاد نجم عن ظاهرة أحمد فؤاد نجم



GMT 00:45 2024 الثلاثاء ,19 آذار/ مارس

«حماس» وإيران وثمار حرب غزّة!

GMT 00:44 2024 الثلاثاء ,19 آذار/ مارس

ما بعد التعويم ؟!

GMT 00:42 2024 الثلاثاء ,19 آذار/ مارس

مستعربون عاربون وعاربات مستعربات

GMT 00:41 2024 الثلاثاء ,19 آذار/ مارس

بوتين... تفويض باستكمال الطوفان

GMT 00:38 2024 الثلاثاء ,19 آذار/ مارس

المتنبّي في الجوف السعودية!

نانسي عجرم بإطلالات عصرية جذّابة

بيروت ـ صوت الإمارات
النجمة اللبنانية نانسي عجرم دائمًا ما تطل علينا بإطلالات جذابة تجعلها حديث الجمهور، خاصة وأنها تعتمد على الظهور بأزياء أنيقة يكون غالبًا شعارها البساطة التي تلائم هدوء ملامحها، ومؤخرًا خطفت نانسي عجرم الأنظار بإطلالة جذابة أيضًا جعلتها محط أنظار محبيها اعتمدت فيها على صيحة الشورت، وهي الصيحة التي سبق وقد ظهرت بها من قبل في أكثر من مرة، فدعونا نأخذكم في جولة على أجمل إطلالاتها بهذه الصيحة التي نسقتها بطرق متعددة. تفاصيل أحدث إطلالات نانسي عجرم بصيحة الشورت نانسي عجرم خطفت أنظارنا في أحدث ظهور لها بإطلالة اعتمدت فيها على صيحة الشورت، وتميزت بكونها ذات طابع يجمع بين العملية والكلاسيكية، حيث ظهرت مرتدية شورت جلدي مريح باللون الأسود وبخصر مرتفع. فيما نسقت مع تلك الإطلالة توب باللون الأبيض بتصميم مجسم مع فتحة صدر مستديرة، ونس...المزيد

GMT 18:36 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تنجح في عمل درسته جيداً وأخذ منك الكثير من الوقت

GMT 13:17 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك ظروف جيدة خلال هذا الشهر

GMT 18:37 2020 السبت ,31 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الحمل السبت 31 تشرين أول / أكتوبر 2020

GMT 17:29 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

أمامك فرص مهنية جديدة غير معلنة

GMT 08:24 2021 الإثنين ,12 إبريل / نيسان

لست ورقة بيضاء

GMT 19:17 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

ينعشك هذا اليوم ويجعلك مقبلاً على الحياة

GMT 05:49 2019 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

6.6 مليارات درهم تصرفات عقارات دبي في أسبوع

GMT 03:04 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

أصابع الجمبرى بالأرز والبقدونس

GMT 03:23 2019 الإثنين ,18 آذار/ مارس

زلزال بقوة 5.5 درجة يهز جنوب غربي إندونيسيا

GMT 07:17 2019 الثلاثاء ,29 كانون الثاني / يناير

الخاتم قطعة مجوهرات لا غنى عنها

GMT 22:43 2019 الثلاثاء ,01 كانون الثاني / يناير

البشير يُشكّل لجنة لتقصي حقائق ما تمر به السودان من أزمات

GMT 15:30 2018 الجمعة ,05 تشرين الأول / أكتوبر

الكشف عن تفاصيل حادث حريق أبوظبي

GMT 07:08 2018 السبت ,08 أيلول / سبتمبر

ضعف المبيعات يدفع "سامسونغ" إلى تعجيل إطلاق Note9

GMT 17:04 2018 الأربعاء ,14 شباط / فبراير

أصالة تعلن أن حبها لطارق العريان لا تكفيه السطور
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates