صناعة السفن الخشبية

شكّل البحر مصدر إلهام للإنسان الإماراتي في القديم، وموردا معاشيا، وارتبط بتفاصيل حياته اليومية، وقد ازدهرت في خضم ذلك صناعة السفن الخشبية، التي تعدّ من أقدم المهن في الإمارات، وذلك بوصفها وسيلة مهمة لركوب البحر للغوص على اللؤلؤ أو صيد الأسماك والسفر إلى الأماكن القريبة والبعيدة، وانتشرت هذه المهنة في المناطق الساحلية في الإمارات، وكانت الأخشاب تجلب من الهند والمدن القريبة، إضافة إلى استخدام بعض الأخشاب المستخرجة من الأشجار المزروعة محليا مثل خشب القرط وغيره .

اشتغل بهذه المهنة الكثير من أبناء الإمارات الذين توارثوها كابرا عن كابر، وبرعوا في صناعتها حتى كان بعض كبار التجار يفدون إلى الإمارات لصناعة سفنهم فيها .

ويكشف الباحث علي محمد راشد في كتابه "صناعة السفن الخشبية في دولة الإمارات العربية المتحدة" عن جوانب مهمة من هذه المهنة العريقة، مستعرضاً طريقة بناء السفن، وأنواعها وأسماء أشهر الصناع في الإمارات، وتوقف عند أبرز العوائق والصعوبات التي كانت تواجه صناع السفن في مهنتهم الشاقة، حيث "يمتد العمل من الصباح الباكر حتى مغيب الشمس، وتمارس غالباً تحت أشعة الشمس المحرقة، أو تحت مظلة خفيفة لا تكفي لردع حرارة الجو أو رطوبته، لا سيما أن أجواء الخليج تتميز بارتفاع الحرارة في أغلبية أشهر السنة" .

وتعرف مهنة صناعة السفن في الخليج العربي ب "القلافة"، وصانع السفينة يسمى "قلافاً"، أو "جلافاً"، وهي من المهن الفنية العريقة التي اشتهرت بها المنطقة منذ القدم . و"القلافة" تعني ربط أجزاء الخشب بالحبال، أو خياطتها كما يخاط القماش، وذلك قبل استخدام المسامير .

وتعتبر"القلافة" عملا جماعيا يؤديه فريق متكامل يتقاسم الوظائف والتخصصات، ويتكون من الأستاد، وهو رئيس القلاليف، ونائب الأستاد، ومسؤول الشلامين، ومسؤول تركيب الألواح، وضارب المسامير، وقلاف كلفات (جلفاط أو قلفاط)، وقلاف شقاق، وعامل، والوليد، الطباخ .

وقد شهدت هذه المهنة تراجعا كبيرا بفعل التغيرات الاقتصادية التي عرفتها منطقة الخليج بعد الحرب العالمية الأولى، والتي أدّت إلى انكماش التجارة الخارجية، وتقلّص السفن بالسفن الضخمة، وانهيار تجارة اللؤلؤ، ما أدى بصنّاع السفن إلى البحث عن وسائل بديلة تمثلت في صناعة سفن متوسطة الحجم، وظهرت سفن جديدة مثل: البوم، الشوعي، والبانوش، والهوري، كما عرفت مهنة "القلافة" تطوراً مهماً مع بداية ستينات القرن المنصرم مع ظهور الأدوات والمعدات الكهربائية التي سارع الصناع إلى اقتنائها وإدخالها في صناعة السفن .

وتستخدم في صناعة السفن الأخشاب على اختلاف أنواعها، أخشاب الساج، خشب الجنقلي، خشب الفيني، خشب المنتيي (المنطيج)، خشب الفن، خشب باكة، الميط، القرط، خشب الفنص، هذا إضافة إلى المواد العضوية الأولية التي تستخدم في هذه الصناعة مثل: "الحل، الشونة، الصل، المغر، قماش الشراع، الحبال، الدامر، إضافة إلى الأدوات الأخرى التي تستخدم في صناعة السفن وهي: المجدح (المقدح)، المنشار، الجدوم (القدوم)، المطرقة، السكني، المنقر، الرندة، القوبار، المسامير . ." وثمة أدوات أخرى يستخدمها صانع السفن يوظف فيها عبقريته ومهارته في هذه الصناعة .

ومن أهم أنواع السفن التي كانت تستخدم في مياه الخليج: البقارة، البتيل، الجالبوت، السنبوق، الشوعي، الشاحوف، البوم، البغلة، القنجة، البدن والعويسة، الهوري، السنبوق المخيط، أبو بوز، الشاشة،اللنج، الماشوة، الرمث، بتيل السردال، البلم، تشالة، تكريري، عدولية، فلوكة، كوتية، قلص، صنكيري، الزاروق .

وتحتفي الذاكرة الشعبية الإماراتية بالكثير من القصص والحكايات المرتبطة بهذه المهنة، سواء من خلال وصف الشعراء لصناع السفن ومهنتهم، أو رحلات الغوص على اللؤلؤ، كما تزخر الأمثال الشعبية بالكثير من القيم الوجدانية والتراثية التي تحيل إلى حضور هذه المهنة الفاعل في حياة الناس ومعاشهم، مثل "البحر خمسة والبلد خمسة، أخذنا بشراع وميداف، قال غرقان، قال دوس على التريج، لا يغرك حمر حيابه ترى ليحانه شريش" .