سفينة الرمل

سفينة الرمل

سفينة الرمل

 صوت الإمارات -

سفينة الرمل

عمار علي حسن
بقلم - عمار علي حسن

رأيته جالسًا في الطابق الثالث من السفينة الصغيرة، التي بناها على مهل لترسو فوق الرمل، ينظر إلى المدى البعيد بعينين يضيقهما قليلًا ويقول:

كانت صحراء جرداء وصارت الآن واديًا جديدًا تسكنه العصافير والفراشات.

يعود ناظراه، من عند سور الدير، الذي تلثم السماء هامته؛ ليحطا حيث تقف النخلات التي غرسها قبل أيام، ويتوه في سنوات تعبه، ويواصل:

حين خصصوا لي هذه القطعة من الصحراء المهجورة فزعت، لكن التحدي الذي سكنني وقتها كان أكبر من الفزع فأماته في نفسي؛ ليستيقظ عزم الفلاح القديم، الذي أتى إليَّ متنقلا في صلب سلسال طويل عشق الخصب والنماء في رحاب الدلتا.

يرفع يده فتظهر تحت إبطه أشجار الماهوجني والباولينا التي غرسها، لتجاور مزارع المانجو والخوخ، ويغرس إصبعه في طرف الفضاء الأزرق، وكأنه سيأخذ من يسمعه إلى مجرة أخرى، ويتنهد في وجع ويقول:

قطعة واسعة من أرض رميلة وصخرية وملحية غير مستوية وقليل منها كان لينًا، لكن الإرادة والمال تذيب الحجر الصوان.

وحين يتوقف بعضهم عن كلمة المال، يبتسم ويقول:

فعلا، بعدد حبات الرمل.

لم يكن يعتقد وهو يأخذ من مال كدح وعرق في سبيله جمعه أربعين عامًا في بلاد بعيدة، كي يضع لنفسه موطئ قدم في بلده، أن كل هذا العذاب ينتظره. أوراقًا كان عليه أن يجهزها لو فرشها لغطت مساحة واسعة من أرضه التي تتعافى يومًا بعد يوم، ووقوف على الحافة مع قوانين تتغير كل وقت، ويخضع تأويلها لأمزجة كثيرة، وألسنة لا تكف عن بث الإحباط.

يغمض عينيه كي يسقط ما تعذب به، أو بعضه، فأراه يتناثر خلفه ويحرك المياه الرائقة في بحيرة صناعية صغيرة تتقافز فيها أسماك جديدة على الحياة، يحكي كيف أنها ستكبر بعد شهور قليلة، ويشير إلى فرن قريب منها مصنوع من الطوب الأحمر والقرميد، وعدة بيوت من الخشب تتجاور على الحافة المفتوحة على الخضرة والنسيم، وكأنه يعلن عن التثبت بحياة دائمة هنا.

يروق له أحيانًا أن يحكي طرفًا من سيرة الشاب القروي الذي هاجر إلى فرنسا صبيًّا ليس معه سوى الأمل، وأكمل فيها حياة لافتة، حين صار رجل أعمال وزوجًا وأبًا لابن وبنت، تفتح له الدنيا هناك ذراعيها فيتبعها، لكن لا شيء يأخذه من طين الأرض التي نبت فيها، وتركها خلفه، عاقدًا العزم على العودة إليها، مهما طال به السفر.

تختلط في عينيه ألوان من مشاعر دفينة ويقول:

ماتت زوجتي الفرنسية هنا في مصر، ودُفنت في المقبرة التي اختارتها هي.

قال له من سمعه:

كثيرون عاشوا عقودًا من الزمن في البلاد التي تتتابع وراء البحر الواسع، وتاهوا هناك، أو عادت جثثهم هم فقط، أما الزوجة والأولاد فقد كان مثواهم في أرض أخرى.

لم ينتظر حتى تكون أرضه في وطنه هي المقبرة، إنما جاء ليحيى أرضًا ميتة، أراه يكلمها أحيانًا، ويمد نخلها حتى يلامس النخل الذي تركه هناك في قرية أبو سنيطة في الباجور، حيث حُفر في ذاكرته ما لم تستطع مدن النور والبراح هناك أن تجعله يغيب، ولا يمكن لذرات الرمل التي تهيج في الريح هنا أن تطمسه.

لا يثرثر كثيرًا عن محبة أرض النيل لكننا نراها في حبه للخضرة الفسيحة، تاركًا خلفه امتدادًا أبعد لها في بلاد الغربة، يمد أنفه؛ ليشم رائحة الريحان الذي أحاط به بيتًا بسيطًا أنيقًا وسط الأرض المزروعة، ويقول:

زرعت في أمريكا ثلاثة آلاف فدان من أجود الأراضي لسنوات، واستفدت منها كثيرًا، لكنني لم أهتز لها كما أهتز هنا لأي نبتة تشق هذا الرمل باحثة عن حياة لها ولنا.

في الليل يصعد إلى سطح البيت، ليرى الأضواء التي تبرق في المدى، وهي تتقارب فتصنع غلالات شهباء تكسر الظلمة والوحشة، فيرفع يده من جديد، ويقول:

كأنني أرى قريتي القديمة والبلدات المجاورة لها.

يكون الليل أمامه قد أخفى الرمل الذي نراه في النهار، يضرب المزرعة من جانبها الغربي ثم يواصل تمطؤه بلا حد، معلنًا عن أرض أخرى تحتاج إلى بذرة وقطرة كي تنطق بما لا يعرفه من ضنوا بها على الأيدي الساعية إلى الرزق. في العتمة تبدو الأنوار التي تتكاثف في بقع متتابعة كأنها إعلان عن خط حياة جديدة ضاجة بالآدميين الذين يتهادون في شوارع القرى المتربة، لكن ما إن تشرق الشمس حتى يرفع الخيال غطاءه عن القرى المزعومة ويترك كل شيء على حاله، صخر ورمل يصارع خضرة تنبت على أكف مجهدة.

كل من يأتي ويذهب، يدور خاطر في رأسه وهو يمضي بسيارته فوق طريق أسفلتي ممزق جسده، ثم لا يلبث أن يؤمن به، حين تستوي العجلات على طريق القاهرة ـ الإسكندرية الصحراوي، أو الذي كان صحراويًا، فيقول لمن يجلس إلى جواره:

هذه ليست مزرعة إنما تجربة.

لا يقول هذا صراحة، إنما يجعلك تتوصل إليه، وأنت تسمعه يتحدث عن كل نبات مزروع هنا وكأنه صديق حفر مجرى في حياته، مفعم بحكايات ومشاعر وأشياء، لا يمحوها الزمن، ويتحدث عن غيره من الذين جاءوا إلى الرمل حاملين أحلامهم على ظهورهم، ويقول:

مستقبلنا في الخروج إلى الصحراء.

ويترامى الرمل والصخر موحشًا، تعبث الريح الطليقة بحصواته الصغيرة وأحراشه وإبل البدو التي تتوه أجسادها في فراغ يبدو بلا نهاية، وآثار خفافها التي أضناها الرحيل تترك علامات للرائين المدققين، الذين يسبقون العواصف التي تضرب الرمل، وتخفي كل ما تركه الذين سعوا في هذه الأمكنة من قبل.

يقول كل من ينظر إليها:

لا يهزم الصحراء سوى الماء.

يأخذ من يزوره إلى طلمبات الرفع التي تستعير الماء من جوف الأرض، فتعطي بعضه للزرع، وآخر للشمس الساطعة هنا، ثم تعيد القليل مما تبقى إلى مكانه، ولا ينسى أن يحكي له عن حاجة كل فدان إلى الماء، باختلاف النبات، والفروق بين أنواع التربة. تسمعه وأنت على يقين من أنه لم يقرأ هذا في كتب، أنما تعلمه من تجربة أضنته في رحلة التأرجح بين الخطأ والصواب، والصواب والخطأ، حتى صار يعرف ما يحرص على أن ينقله إلى الآخرين عن طيب خاطر. يتحدث في التفاصيل وكأن سامعه مزارع أو صاحب مزرعة عليه أن يتقن الصنعة جيدًا حتى لا تضيع أمواله في الرمل.

ما الذي يحتاجه الزرع؟

يسأله من ينظرون إليه وهو متيم بالأخضر الذي يأكل الأصفر بعد جهد جهيد، فيجيب:

المحبة.

تتسع عيونهم في عجب، لكنه لا يتركهم لحالهم كثيرًا، ويواصل:

لا يمكن أن تنجح في محاربة الصحراء إلا إذا كان الوادي القديم ساكنُا في خلاياك، لا لتستعيده كما هو، إنما لتنطلق منه إلى ما لم يعرفه أجدادنا عن فنون الزراعة المتطورة.

من يسمعونه يعصرهم الألم، فهم يعرفون أن الوادي يضيق، فغابات الأسمنت تبتلعه، والماء الوارد إليه مهدد بالنقصان، وضيق الرؤوس يصفعه كل يوم بما لا يليق به، وتلاحقه أسئلة لا تنتهى عن مروءة الرجال الذين فرطوا في إرث عظيم، وأولئك الذين رأوا كل شيء يضيع من بين أيديهم، وتغافلوا.

ينصتون ويتنهدون في حسرة، وبعضهم ينظر حوله ليطمئن إلى أن أحدًا لا يسمعه في هذه الأرض سوى الخلاء والذين يرى وجوههم، وهذه الزروع التي تقترب كل يوم من السماء؛ لتعطي علامة على أن الحياة تنتصر على الموت. لا يكون أمامهم وقت طويل حتى يكتشفوا هذا، فما بين القحل والخصب يد مسكونة بالخير، وقبلها أذن تصغي لزقزقة العصافير، وصرير الجنادب، وعين تطير أمامها الفراشات، وإيد يلسعها الباعوض، فحتى هذا والذباب أيضًا لا يمكنهما المجيئ إلى القحل، وكل الكائنات تفضل أن تشم رائحة البشر، حتى ثعابين الصحاري وعقاربها.

يضحك ويقول:

حين تسلمنا الأرض لم يكن هنا أي شيء تدب فيه الحياة، اللهم إلا أشياء لا نعرفها، لكن حين قام الزرع جاءت أشياء، وبدأت دنيا هذا المكان.

كل من يسمعونه يتذكرون تلك الأيام التي كانوا يمضون فيها عبر الطريق بين العاصمة وسيدة الشاطئ المارية فلا يرون عن يمينهم وشمالهم سوى الرمل المقبض، وبعضهم وقتها كان ذاهبًا إلى ندوة عقدت في الإسكندرية حول "تحديات الزراعة في مصر". ينظرون الآن إلى الأصفر المتجهم على الجانبين، ويستعيدون كل من بقي في ذاكرتهم عن الخصب المفروش فوق لافتة استقرت في رؤوسهم منذ آلاف السنين تقول: "مصر هبة النيل".

الآن كل منهم يحدث نفسه في صمت:

أه مما آل إليه النيل.

يعرف أن ماءه قد أمروه بأن يغور، والناس في حيرة، والزرع القديم الذي ألفته أرض الوادي والدلتا يستكين في وجه الذي يجري، وأصحابه يقفون عاجزين في وجه كل ما يقال، لا سيما منع زراعة الأرز وقصب السكر، فكلاهما يحتاج إلى ماء غزير.

وحين يسمع عن الري بالتنقيط، يقول واحد ممن داوموا على الحضور إلى المزرعة التي وضع عليها عبارة لافتة "القرية الفرنسية":

معجزة تلوح في هذا الطريق الضيق.

لم تكن معجزة، لكنها كانت، على الأقل، شيئًا يفوق خيال الذين قطعوا الطريق الخالي قبل سنين طويلة، ولم يكن أحد منهم يتصور أن هذا الخلاء ستسكنه النباتات والأشجار والنخيل والطيور والفراشات وأوراق يانعة تشاكس النسيم العفي الذي لا تقدر الصحاري نفسها على إيقافه، وأبراج حمام تلوح وسط الخضرة الممتدة، ومساكن ودور عبادة ومطاعم، ستأتي الحياة بعد الموت، وستدوس الرمل أقدام عجلى تسابق الزمن في سبيل تحصيل الأرزاق من فم القحط الذي لم يعد، كي تصعد إلى ظهر السفينة الراسية على الرمل، تنظر إلى المدى البعيد المفتوح على رمل ينادي من يمد إليه قطرة ماء كي تنبت نخلة، لكنها تخشى الأقدام الغليظة، التي لا تريد للصفار الواسع أن ينحسر كي يظل ساحة لمحاربة طواحين الهواء، ويبقى مقبرة لا حدود لها، ليس لعدو قد لا يأتي أبدًا، إنما لأحلام من يسعون إلى قتل الجدب والخراب.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سفينة الرمل سفينة الرمل



GMT 00:45 2024 الثلاثاء ,19 آذار/ مارس

«حماس» وإيران وثمار حرب غزّة!

GMT 00:44 2024 الثلاثاء ,19 آذار/ مارس

ما بعد التعويم ؟!

GMT 00:42 2024 الثلاثاء ,19 آذار/ مارس

مستعربون عاربون وعاربات مستعربات

GMT 00:41 2024 الثلاثاء ,19 آذار/ مارس

بوتين... تفويض باستكمال الطوفان

GMT 00:38 2024 الثلاثاء ,19 آذار/ مارس

المتنبّي في الجوف السعودية!

نانسي عجرم بإطلالات عصرية جذّابة

بيروت ـ صوت الإمارات
النجمة اللبنانية نانسي عجرم دائمًا ما تطل علينا بإطلالات جذابة تجعلها حديث الجمهور، خاصة وأنها تعتمد على الظهور بأزياء أنيقة يكون غالبًا شعارها البساطة التي تلائم هدوء ملامحها، ومؤخرًا خطفت نانسي عجرم الأنظار بإطلالة جذابة أيضًا جعلتها محط أنظار محبيها اعتمدت فيها على صيحة الشورت، وهي الصيحة التي سبق وقد ظهرت بها من قبل في أكثر من مرة، فدعونا نأخذكم في جولة على أجمل إطلالاتها بهذه الصيحة التي نسقتها بطرق متعددة. تفاصيل أحدث إطلالات نانسي عجرم بصيحة الشورت نانسي عجرم خطفت أنظارنا في أحدث ظهور لها بإطلالة اعتمدت فيها على صيحة الشورت، وتميزت بكونها ذات طابع يجمع بين العملية والكلاسيكية، حيث ظهرت مرتدية شورت جلدي مريح باللون الأسود وبخصر مرتفع. فيما نسقت مع تلك الإطلالة توب باللون الأبيض بتصميم مجسم مع فتحة صدر مستديرة، ونس...المزيد

GMT 18:36 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تنجح في عمل درسته جيداً وأخذ منك الكثير من الوقت

GMT 13:17 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك ظروف جيدة خلال هذا الشهر

GMT 18:37 2020 السبت ,31 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الحمل السبت 31 تشرين أول / أكتوبر 2020

GMT 17:29 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

أمامك فرص مهنية جديدة غير معلنة

GMT 08:24 2021 الإثنين ,12 إبريل / نيسان

لست ورقة بيضاء

GMT 19:17 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

ينعشك هذا اليوم ويجعلك مقبلاً على الحياة

GMT 05:49 2019 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

6.6 مليارات درهم تصرفات عقارات دبي في أسبوع

GMT 03:04 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

أصابع الجمبرى بالأرز والبقدونس

GMT 03:23 2019 الإثنين ,18 آذار/ مارس

زلزال بقوة 5.5 درجة يهز جنوب غربي إندونيسيا

GMT 07:17 2019 الثلاثاء ,29 كانون الثاني / يناير

الخاتم قطعة مجوهرات لا غنى عنها

GMT 22:43 2019 الثلاثاء ,01 كانون الثاني / يناير

البشير يُشكّل لجنة لتقصي حقائق ما تمر به السودان من أزمات

GMT 15:30 2018 الجمعة ,05 تشرين الأول / أكتوبر

الكشف عن تفاصيل حادث حريق أبوظبي

GMT 07:08 2018 السبت ,08 أيلول / سبتمبر

ضعف المبيعات يدفع "سامسونغ" إلى تعجيل إطلاق Note9

GMT 17:04 2018 الأربعاء ,14 شباط / فبراير

أصالة تعلن أن حبها لطارق العريان لا تكفيه السطور
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates