حرب قد تغيِّر وجه العالم

حرب قد تغيِّر وجه العالم

حرب قد تغيِّر وجه العالم

 صوت الإمارات -

حرب قد تغيِّر وجه العالم

بقلم : أمير طاهري

هل الحرب الأوكرانية ليست أكثر من غمامة من السحب في سماء ساطعة؟ يبدو أن هذا رأي متخم بالتفاؤل يتبنّاه بعض النخب في الديمقراطيات الغربية التي تحرص، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على عدم إذلال فلاديمير بوتين إثر ارتكابه لهفوة عابرة.
لكن الحقيقة أن حرب بوتين قد هزت النظام العالمي بطرق قد تؤثر علينا جميعاً لفترة طويلة قادمة.
على مدى العقود السبعة الماضية، أي بعد الحرب العالمية الثانية، استند ما يُعرف بالنظام العالمي الحالي إلى ثلاثة مبادئ ساعدت، رغم عدم مراعاتها على الدوام، في الحفاظ على الصرح سليماً.
كان المبدأ الأول هو ما يُعرف بالقانون الدولي القائم على ميثاق الأمم المتحدة وأكثر من 10 آلاف معاهدة وبروتوكول دولي تؤيدها أغلبية الدول الأعضاء وعددها 198 دولة. وقد انتهك اجتياح أوكرانيا هذا المبدأ بطريقة جوهرية. ولأن المعتدي عضو في مجلس الأمن يتمتع بحق النقض، فإن الأمم المتحدة لا تستطيع حتى معالجة هذه القضية بصفة رسمية.
بعبارة أخرى، أوصدت محكمة الملاذ الأخير أبوابها تماماً.
المبدأ الثاني هو توافق الآراء لصالح التجارة الحرة الخاضعة لاتفاقات ثنائية و- أو دولية. واستغرق الأمر عقوداً من المفاوضات على مستويات مختلفة قبل أن تتحول الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الجات) إلى منظمة التجارة العالمية. ومع قدوم دعم العولمة للتدفق الحر للسلع ورؤوس الأموال، وفي بعض الحالات العمالة، تتقاطع الانقسامات الآيديولوجية بين الدول القومية الأكبر حجماً.
لقد جرى انتهاك هذا المبدأ أيضاً نتيجة للحرب الأوكرانية. كما أن الحظر الذي فرضته نحو 40 دولة على واردات الطاقة من روسيا يعد انتهاكاً واضحاً، إضافةً إلى قرار روسيا وقف صادرات أوكرانيا الزراعية عن طريق إغلاق موانئ بحر آزوف مع انتهاك الكثير من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحرية الملاحة. ونرى اليوم مشاهد تُذكّرنا بالعصور الوسطى عوضاً عن القرن الحادي والعشرين؛ إذ تعمل تركيا، من المفترض بالاتفاق الضمني الروسي، على تخزين القمح والذرة من روسيا وأوكرانيا لبيعها المحتمل في السوق الرمادية.
كما تطورت السوق الرمادية حول النفط الروسي، وحصلت الصين على خصومات مقابل تبديل الواردات القادمة من إيران. وفي الأثناء ذاتها، دعا رئيس السنغال ماكي سال نظيره الروسي إلى ضمان اتفاق السوق الرمادية بشأن صادرات القمح والذرة إلى أفريقيا السمراء. كما زعم بعض التقارير أن مصر تسعى أيضاً للتوصل إلى اتفاق لإعادة تخزين احتياطياتها من الحبوب التي من المقرر أن تستمر لأربعة أشهر أخرى.
المبدأ الثالث، الذي ساعد على انتشار العولمة في مختلف أنحاء العالم، كان حماية رأس المال من قِبَل الاقتصادات الغربية الكبرى. وبعد الاستيلاء على أصول الشخصيات المصنفة بأنهم من القلة الثرية الروسية، اهتزت ثقة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلفائهم الأصغر بنظام جذب تريليونات الدولارات، وبعضها أموال قذرة، من الصين وروسيا وأوكرانيا وأكثر من 100 دولة أخرى إلى المصارف والبورصات الأوروبية والأميركية.
لقد فعل بوتين ما بوسعه في هذا الاتجاه من خلال الاستيلاء على أصول الشركات الغربية العاملة في روسيا، أو في أفضل الأحوال فرض البيع القسري عليها بجزء يسير من قيمتها الحقيقية.
وعلى نحو مفاجئ، يتعرض النظام الاقتصادي العالمي، الذي كان يعمل كالساعة، للكثير من التحديات. والواقع أن ثقافة «المخزون الفارغ» التي كانت الشركات الغربية تعمل بموجبها، من خلال التسليم المباشر للسلع والأجزاء الصناعية والمواد الخام، باتت تهتز إلى حد كبير. تكتشف الاقتصادات الكبرى فجأة اعتمادها الخطير على الواردات الأجنبية. وهذا بدوره أسفر عن نشوء موجة جديدة من القومية الاقتصادية تحت شعار «إعادة التوطين». وفجأة شكّلت لعبة الميزة النسبية والتخصص محوراً جوهرياً في العولمة التي تبدو مفرطة في المجازفة حتى بالنسبة لأقوى الاقتصادات.
يعجّ التلفزيون الأوروبي هذه الأيام بالتقارير التي تتحدث عن شركات تغلق أبوابها أو تُخفض حجم مصانعها في الصين، وعمّا تُسمى «نمور» العالم الثالث الذين يسعون إلى تصنيع نفس المنتجات الرخيصة التي تأتي من الخارج.
كما يؤثر الخوف من النقص على الصين كذلك، لا سيما فيما يتعلق بالطاقة والغذاء.
إذ تكدس بكين النفط في مستودعات مبنية على عجل، بل حتى في ناقلات النفط العائمة في البحر. وهي تشتري أيضاً الأراضي الزراعية في أفريقيا وآسيا الوسطى لزراعة الحاصلات الغذائية في المستقبل.
كل ذلك أسفر عن التضخم، الوحش الرابض عند الأبواب، بفضل العمالة الرخيصة القادمة من الصين و«النمور»، بالإضافة إلى الطاقة الرخيصة القادمة من روسيا، والشرق الأوسط، وأفريقيا، وأميركا الوسطى.
وعندما نتحدث عن التضخم، نعني انخفاضاً في القوة الشرائية للمواطن العادي، وهو موضوع يتجه إلى قمة جداول الأعمال في معظم الديمقراطيات الغربية.
عند التعامل مع أوروبا، تخلت الولايات المتحدة وكندا عن عقود من الثبات العقائدي على الميزانيات المتوازنة، وشرعتا في الاقتراض على أساس لا يحسب حساباً للمستقبل، ووزعتا ما يرقى إلى الرشى السياسية على الناخبين في كل منهما.
كم من الوقت يدوم هذا الانغماس في الإنفاق، فهذا متروك لمخيّلة كل شخص على حدة.
بفضل جبال الأموال السائلة المتدفقة على السوق العالمية وأسعار الفائدة المنخفضة تاريخياً، قد تستمر سياسة دعم المستهلكين لبعض الوقت. لكن من المحتم أن يؤدي هذا إلى تفاقم التضخم، ما من شأنه أن يؤدي بدوره إلى المطالبة برفع الأجور، الأمر الذي يؤدي إلى حلقة مفرغة تؤدي بدورها إلى الركود التضخمي.
لقد أوهمت الديمقراطيات الغربية نفسها في الاعتقاد بأن البنوك المركزية، أو الاحتياطيات الفيدرالية في الولايات المتحدة، قادرة دوماً على ترويض التضخم بإشارة أو إيماءة. ولنحو عقدين من الزمان بدا الأمر كذلك، الأمر الذي جعل من البنك المركزي أو بنك الاحتياطي الفيدرالي مثل الأبطال.
وذات يوم، قال رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي السابق بن برنانكي، ساخراً، إن شعاره هو وغيره من محافظي البنوك المركزية كان: «98 في المائة من التصريحات و2 في المائة من الإجراءات».
بعبارة أخرى، عندما يكون الطقس لطيفاً والأشرعة عالية، بوسع القبطان أن يظهر بمظهر البطل لمجرد وجوده هناك.
أما الآن، يتغير الطقس مع العواصف التي تثقب الأشرعة. مما يعني أن العلاج بالصدمة قد يكون مطلوباً، لا سيما مع استمرار تكاليف الدفاع عن أوكرانيا، التي تبلغ الآن نحو 5 مليارات دولار شهرياً، وتواصل الارتفاع. ومن جانبه، يشهد بوتين أيضاً نضوباً سريعاً لصندوق تمويل الحرب الذي أنشأه، بنحو 400 مليار دولار، إعداداً لعمليته، حيث إنه يَدين بجزء كبير من دعمه للرواج الاقتصادي الذي شهدته روسيا منذ عام 2010 ومطالبة الشعب الروسي الآن بشد الأحزمة لن يكون سهلاً ويسيراً.
أخيراً، ربما ألحقت حرب بوتين الضرر بالعملية الديمقراطية حتى في الديمقراطيات الغربية. ومن بين الأمثلة على ذلك القرار الذي اتخذته السويد وفنلندا بالانضمام إلى حلف الناتو بعد مناقشة برلمانية معتدلة. والنفقات الهائلة على الدفاع، ومرة أخرى من دون مناقشة وافية ومعلومات عامة، هي مثال آخر.
وهناك مثال آخر يتمثل في الموافقة السريعة على الاعتمادات لتمويل المقاومة الأوكرانية من الحكومات التي لعبت لعقود من الزمان دور تاجر البندقية «شايلوك»، وصارت تلعب الآن دور الملك الإغريقي «كرويسوس» المقبل على الهزيمة.
وكما نرى، فإن المشكلات التي نواجهها الآن أعظم كثيراً من محاولات إذلال «القيصر» فلاديمير.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حرب قد تغيِّر وجه العالم حرب قد تغيِّر وجه العالم



GMT 02:30 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

السادة الرؤساء وسيدات الهامش

GMT 02:28 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

«وثائق» عن بعض أمراء المؤمنين (10)

GMT 02:27 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

من يفوز بالطالب: سوق العمل أم التخصص الأكاديمي؟

GMT 02:26 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

روبرت مالي: التغريدة التي تقول كل شيء

GMT 02:24 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

السعودية وفشل الضغوط الأميركية

GMT 17:50 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر

GMT 15:42 2017 الأحد ,29 كانون الثاني / يناير

"كارولينا" تحبس كل من يخلف في وعده بالزواج

GMT 01:31 2018 الأربعاء ,18 تموز / يوليو

أحمد شوبير ينتقل إلى أون سبورت

GMT 17:34 2015 السبت ,24 كانون الثاني / يناير

55 مشاركًا وأكثر من 100 لوحة فنية تجمعها خيمة الفنون

GMT 07:54 2015 الثلاثاء ,08 أيلول / سبتمبر

إقبال لافت على مشاهدة عروض المهرجان المصري للمسرح

GMT 07:04 2016 الجمعة ,26 شباط / فبراير

لوس انجلوس تستعد لاستقبال أوسكار 2016

GMT 12:32 2015 الثلاثاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

"شانيل" تطرح بإبداع تشكيلة مجوهرات "سولاسين دي ليون"

GMT 19:13 2018 السبت ,13 كانون الثاني / يناير

سيف بن زايد يعزي سعيد سلطان بن حرمل في وفاة والده

GMT 11:54 2018 السبت ,13 كانون الثاني / يناير

إيفانكا ترامب تتألق بإطلالة مبهرة في عيد ميلاد زوجها

GMT 17:58 2017 السبت ,30 كانون الأول / ديسمبر

الدوائر الحكومية في دبي تُسعد موظفيها بالسرعة القصوى

GMT 06:26 2015 الأحد ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

هيئة الكتاب تصدر "القوى السياسية بعد 30 يونيو" لفريد زهران

GMT 17:24 2013 الجمعة ,18 تشرين الأول / أكتوبر

"كواليس الكوابيس" قصة جديدة لمحمد غنيم

GMT 15:14 2013 الخميس ,26 أيلول / سبتمبر

القطط من أجل راحة الزبائن في مقهى فرنسي في باريس
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates