قصة رجل يلعب بالقنابل

قصة رجل يلعب بالقنابل

قصة رجل يلعب بالقنابل

 صوت الإمارات -

قصة رجل يلعب بالقنابل

غسان شربل
بقلم - غسان شربل

لا مبرر لكل هذا الصراخ. ولا جدوى من النحيب. ولا فائدة من استدرار عطف الأجانب. ولا داعي للقضاة والمحاكم. سجلوه في خانة الحوادث المؤسفة واستريحوا. لا تتعبوا أنفسكم بانتظار نتائج التحقيق. تعلموا من تجارب الآخرين. لهذه البلاد ذاكرة تمتهن النسيان. حاولوا تفادي الكلام العاطفي. ورشق الاتهامات بلا دليل. والاستغلال السياسي للحادث. وإفساد السمعة. وتشويه الصورة. لا تلعبوا لعبة العدو.
وإذا تعاملتم مع الحادث المؤسف بواقعية فستصلون إلى الحقيقة من أقصر الطرق. هذا الرجل لم يقتله أحد. قتل نفسه. نصب مشنقته وصعد إليها. كان مدركاً لموعده مع حتفه وسار إليه مطمئناً واثقاً. منذ سنوات انتدب نفسه لمهمة انتحارية. طوّق عقله بالمنطق كمن يطوّق خصره بحزام ناسف وهاجم الروايات والخرافات والتهديدات وما اعتبره ليلاً واستبداداً وتخلفاً. وتقضي الحقيقة الاعتراف أنه كان مزعجاً. رجل يتحول منطقه النزيه والمثقف سيفاً يقشر الحكايات المفخخة من ألوانها الخدّاعة والتسلط من قدرته على الإرعاب. وكان يتقدم أعزل كمن يحول الحقيقة جيشاً جراراً. وكان يتكلم بسلطان يشبه تجرؤ الضوء على الظلام. وكان قاسياً يطعن الخرافات بكلام هادئ ومفردات حديثة راقية وعقل يجادل ويحاكم. كان يفكك سطوة القتل وهيبته كمن يلقي بجسده على النار لإخمادها.
وتقضي الأمانة التنويه بأنه كان عنيداً، ما تسبب في الحادث المؤسف. نصحناه فلم ينتصح. هددناه فلم يرفّ له جفن. تركنا له طريق المطار مفتوحة ليهرم في الغربة ويموت فيها مع الكتب التي تغويه والأفاعي التي تثيره والشعراء الذين يحب. تركنا له الباب مفتوحاً ليهرب مع أوهامه فأصرّ على احتقار النصيحة. وقرار إعدامه. والقاتل والرصاص والظلام.
إنها قصة رجل لم يفهم. رجل رفض أن يفهم. إن العالم الذي ينتمي إليه مضى وانقضى. وإننا كلفنا بطرد بقايا ذلك العالم من الوجود. باغتيال آخر قنديل. واقتلاع آخر شجرة. وتسميم آخر نبع. وطحن آخر صخر. لا يحق للرأي العام أن يبالغ. وأن يحوّل حادثاً مؤسفاً قضية كبرى. وأن يتبارى الكتاب والصحافيون في نظم المراثي. وأن يصدق المشاهدون دموع الدبلوماسيين. ومنظمات حقوق الإنسان. هذه المنظمات الحقيرة والمشبوهة التي تبحث دائماً عن جثة لتبرر وجودها وميزانياتها. كان باستطاعته حزم حقائبه بهدوء. وحجز بطاقة سفر باتجاه واحد. وأن يجلس هناك في المقهى. أو المكتبة. أو دار السينما. وأن يدبج الكتب والحكايات. لم ينتصح. ولم يكن ساذجاً. كان يعرف بالتأكيد أن حملات التخوين وربط الاسم بالمؤامرات والسفارات هي من شروط إعداد المائدة. وأن المقبلات والبهارات ضرورية بانتظار الصحن الرئيسي. صحن الاغتيال وتمديد جثة «الخائن» على الطاولة.
غريب أمر هذا الرجل الغريب. من كلفه كل هذه المهمات القاتلة التي يتحاشاها الممسكون بالمواقع والأختام؟ من طلب منه أن ينشغل بقصة «المفقودين» في الحرب؟ والمغيبين في سجون النظام السوري؟ ومن كلّفه بكل هذا التقميش والتوثيق وحفظ الذاكرة الجماعية من ممحاة الطغيان ووطأة الوقت؟ وما الذي يجعله معنياً بجلاء هوية قاتل مرفأ بيروت، في حين أظهر الرؤساء وزعماء مشكورين مرونة بلا نهاية وواقعية بلا حدود للتعاون مع تقليد تجهيل الفاعل وتجهيل القاتل؟
لا تصدقوا الصحف والمواقع والشاشات. لم يكن لقمان سليم بريئاً. لا تصدقوا أيضاً ابتسامات المعني ولا تنخدعوا بهدوء أعصابه. كان يخفي عاصفة في عينيه وحزاماً ناسفاً في عقله. كان منزل هذا الرجل شبيهاً بمنشأة بالغة الخطورة يتم فيها تخصيب الأسئلة السامة والأفكار الشريرة. ومع الوقت كان المتهم يزداد إصراراً كمن يشعر بضيق الوقت فيرفع مستوى التخصيب. رجل يحب الحياة ويحتقر الخوف لأنه يعتبره من قماشة الموت المبكر. كان يعرف أن الموجة عارمة وتتحول في أيام الغضب إلى ما يشبه تسونامي لا يرحم. ومع ذلك كان هذا العاشق للحرية وكرامة الإنسان يرفع أصبعه في وجه الليل كمن يزرع قنديلاً في كهف مخيف. الخوف الذي دجّن مؤسسات وجماعات وأجهزة وعهود حاول الاقتراب منه وعاد خائباً. ما أخطر أن ينتصر مثقف على وباء الخوف ويطلق أفكاره عارية من الجبن وأسئلته عارية من الحذر.
كان منزل لقمان سليم المطوّق بالورد والأشجار قلعة خطرة وموبوءة. ينابيع كثيرة كانت تلتقي لتصنع النهر الذي يجلس على ضفافه ويستحم بمائه. ينابيع مختلفة اللغات والأعمار والاهتمامات كانت تلتقي في تلك المكتبة حيث يتجاور القرآن مع الإنجيل ونهج البلاغة وكتب الفلسفة والروايات. وكان يمكن في الأمسيات سماع من يستشهد بالمسيح والحسين والمتنبي. كان المنزل أشبه بورشة لا هم لها غير البحث عن الحقيقة والجديد والخلاق سعياً إلى استبعاد الظلام والأصنام، وتأسيس زمن يفوز فيه المواطن بكرامته والإنسان بإنسانيته.
كان لقمان سليم مذنباً لأنه اختار السباحة عكس التيار. الوجع الإنساني الراقي الذي تدفق من عيني أمه وشقيقته وزوجته أكد جريمته. كان مفكراً حراً ومدافعاً شرساً عن التعدد وحق الاختلاف وثقافة الجسور والتفاعل. كان ضد الليل والطغيان والزي الموحد والرواية القاهرة. ما أوجع الدموع التي لاحت في عيني أمه وهي تتألم لغياب ابنها وصديقها وشريكها في القراءة والنقاش. ما أبلغ الإصرار الذي أطلَّ من كلمات شقيقته حين اعتبرته حياً وأن قاتله هو القتيل.
لا يُشطَب لقمان سليم بحفنة رصاصات. كان بعناده المدني يشبه وطنه. وكان تنوع منزله يشبه حديقة بلاده المهددة. أحياناً يزداد النبع تدفقاً بعد اغتياله. سيرث آخرون لعنة الأسئلة والحرية وسيرفعون الصوت في وجه التسلط والقصور الخانعة المهجورة. إنها قصة رجل كان يعرف أن التعلق بالحقيقة في زمن الظلام الدامس يشبه اللعب بالقنابل. كان يدرك خطورة اللعبة، لكنه كان واثقاً أن الرصاصات التي ستخترق جسده ستحدث ثقوباً في جدار الظلام.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قصة رجل يلعب بالقنابل قصة رجل يلعب بالقنابل



GMT 02:01 2021 الجمعة ,01 تشرين الأول / أكتوبر

ما يجب ألا ننساه في صخب مؤتمر أربيل!

GMT 01:59 2021 الجمعة ,01 تشرين الأول / أكتوبر

لا النظام ولا الدستور

GMT 01:58 2021 الجمعة ,01 تشرين الأول / أكتوبر

... يستبقون الحرب على الصين بتطويقها بحرياً!

GMT 01:58 2021 الجمعة ,01 تشرين الأول / أكتوبر

وعد الحر دين عليه

GMT 01:57 2021 الجمعة ,01 تشرين الأول / أكتوبر

الخلاف حول اليمن

أجمل إطلالات الإعلامية الأنيقة ريا أبي راشد سفيرة دار "Bulgari" العريقة

أبوظبي ـ صوت الإمارات
تحتفل اليوم الإعلامية اللبنانية ريا أبي راشد التي تحظى بشهرة واسعة تخطت حدود الوطن العربي وصولا لعالم هوليوود، ورافقت ريا الأناقة الناعمة في أشهر فعاليات الموضة والفن حول العالم على مدار سنوات من التوهج والنجاح المهني، واليوم تزامنا مع عيد ميلادها الـ47، سنأخذكم في جولة سريعة نتذكر خلالها بعض من إطلالات الإعلامية العالمية الأنيقة ريا أبي راشد سفيرة دار المجوهرات العريقة Bulgari، وأول امرأة عربية تصبح سفيرة للنوايا الحسنة لمفوضية اللاجئين في الشرق الاوسط وشمال افريقيا. أحدث ظهور لريا أبي راشد بصيحة الجمبسوت منذ أيام سحرت الإعلامية ريا أبي راشد متابعيها بإطلالة ناعمة قامت بنشر صورها عبر حسابها الخاص على انستجرام، عبارة عن جمبسوت ناعم باللون الأبيض الموحد من توقيع Alex Perry، تميز بالأرجل الواسعة مع ياقة القلب ذات الأكتاف المكشوف...المزيد

GMT 02:20 2013 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

اعتني بطفلك فى الفترة ما بين عام وثلاثة أعوام

GMT 13:52 2013 الإثنين ,14 تشرين الأول / أكتوبر

عرض فيلم "عشم" في جمعية النقاد

GMT 17:36 2019 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

أساليب مكياج رائعة مثالية لفستانك الأحمر

GMT 21:08 2019 الخميس ,03 كانون الثاني / يناير

يدان فروسية الجبيل يقيم خامس سباقاته للموسم الحالي

GMT 16:45 2018 الإثنين ,31 كانون الأول / ديسمبر

أهم صفات ومميّزات جهاز "ماك بوك برو" مقاس 13 إنش

GMT 08:32 2018 الثلاثاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

«مايكروسوفت» تتجّه إلى إلغاء «إيدج»

GMT 04:06 2018 الخميس ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرفي على أفضل طرق تنظيف الزجاج في الشتاء

GMT 09:13 2018 الأربعاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

موظفو "مايكروسوفت" يثورون ضد صفقة سرية مع البنتاغون

GMT 00:07 2013 الإثنين ,02 أيلول / سبتمبر

تطبيق إلكتروني يساعد على تعلم الإنكليزية

GMT 12:23 2018 الإثنين ,29 كانون الثاني / يناير

فتاة تهجر صديقها بعدما اكتشفت أن سيارته ليست من "بورش"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates