تواصل الحضارات

تواصل الحضارات

تواصل الحضارات

 صوت الإمارات -

تواصل الحضارات

مصطفي الفقي
بقلم - مصطفي الفقي

تؤرقني كثيراً خلال العقود الأخيرة عبارة صراع الحضارات وأظنها غير موفقة تتعارض تماماً مع مفهوم الحضارة والفلسفة التي تستند إليها، فالحضارات تتكامل ولا تتنافس وهي قنوات مفتوحة تصب في خانة نهر التقدم المشترك للأمم والشعوب، والذين يدركون المعنى الحقيقي لكلمة ثقافة يستطيعون بسهولة التعرف إلى مفهوم الحضارة لأن هناك تطابقاً بدرجة ما بين تعبيري الحضارة والثقافة، فالحضارة في النهاية هي أسلوب سلوك جماعي يستند إلى أرضية مشتركة وفكر جماعي في مرحلة معينة من تاريخ الأمم، وما أكثر الثقافات التي عبرت فوق أرضنا والحضارات التي تزاوجت عبر آلاف السنين بين العرب وغيرهم في كافة ميادين المعرفة ومجالات العلم ودوائر الفكر.

وأطالب بداية أن نتوافق على تعريف مشترك لمفهوم الحضارة، فأنا أراها ذلك النسق الذي تضرب علومه وآدابه وفنونه في أعماق الزمان وفي أنحاء المكان، أو قل إنها مجموعة النسب المتجانسة التي تصنع سبيكة مقبولة لدى كل من يتعاملون معها أو يعيشون في ظلها، إن لدينا الحضارة الفرعونية الملهمة ولا أجد غضاضة في أن أسميها "أم الحضارات" التي شاركت بعض الحضارات النهرية الأخرى في الصين والهند وبلاد الرافدين وغيرها من الحضانات التاريخية للحضارات القديمة، ولقد كان من نصيب الشعب الذي ننتمي إليه أنه ظل لآلاف السنين حاضناً للثقافات، مرحباً بالديانات، منطلقاً من الفلسفة الموروثة من تلك الحضارات لا لكي نسحب السجادة من تحت أقدام أي منها ولكن لتأكيد أن الحضارات سلسلة متصلة تلتقي كلها على قاعدة الخير العام والتقدم نحو الأفضل وترسيخ روح الأخوة الإنسانية، والحضارة بهذا المفهوم تنعكس على الجماعات البشرية في السلوك العام وركام التقاليد والقيم التي تعترف بها كل جماعة.

شاءت الأقدار أن يضع المصري القديم أسساً فريدة للوعي الحضاري الذي سبق به حضارات المتوسط الإغريقية والرومانية ومعهما الفينيقية، وتجاورت تلك الحضارات على أرض مصر مكاناً وتتابعت زماناً حتى أصبحت فرادة هذا الوطن مضرب الأمثال في قدرته على الانصهار والانسجام والتناغم، ولقد وقع في يدي أخيراً كتاب موجز للكاتب الصحافي المصري الأستاذ محمد عبدالله بعنوان "قبة سيدنا الولي، ميراث التسامح في وجدان المصريين"، قال في مقدمته، ثمة مساحة مشتركة كبيرة وليست صغيرة، تجمع بين المواطنين المصريين على الرغم من تنوع الانتماء الديني، وعلى الرغم أيضاً من الاختلاف المذهبي داخل الدين الواحد، وهي تشابهات عبرت عنها الكثير من القيم والعادات والأعراف والتقاليد، وكثيراً ما نشاهدها عبر مظاهر الحياة اليومية، في الأفراح والأحزان، في الأعياد القومية والمناسبات الدينية، في الموالد الشعبية، والممارسات الاجتماعية، في طلب البركة والتماس المعونة، وبالإجمال في مختلف المناسبات، صورة تعكس قدراً من المحبة والتسامح وقبول الآخر المختلف والرغبة في تأكيد العيش المشترك والتعاون البناء".

تعبر تلك المساحة من التشابه في حقيقة الأمر عن وحدة الشخصية المصرية وقدرتها على استيعاب كل جديد ليتسع مخزون تلك الشخصية ويزداد ثراؤها، وهي سمة أساسية ميزت المصريين منذ أيام قدمائهم مروراً بالحقبة القبطية ثم الحقبة الإسلامية، وصولاً إلى مصر الحديثة والمعاصرة، وذلك ما يعبر أيضاً عن ثقافة واحدة تضم ثقافات فرعية تتواصل في ما بينها ولا تتنافر، تستمر ولا تنقطع، إن مصر استطاعت أيضاً تمصير الديانات السماوية التي أتت من الجوار الجغرافي وحولتها في كثير من الأحيان إلى مجرد طقوس للعبادة.

ليس تركيزنا على الحالة المصرية بسبب دوافع شوفينية ولكنها مثال يجسد الواقع كله في تاريخ غرب آسيا وشمال أفريقيا، والذي يتابع التراث الفكري لعالم الاجتماع المصري الكبير سيد عويس سوف يكتشف أن المصريين، مسلمين وأقباطاً، يراسلون أصحاب الأضرحة من الدينيين بلا تفرقة أو تمييز طلباً للشفاعة وتحقيق المطالب فيكتب المسلمون إلى مزارات الكنائس والأديرة ويكتب المسيحيون إلى صناديق المساجد حدث ذلك كثيراً في مؤشر للانصهار الاجتماعي الذي لا نظير له، ويستخدم عالم الاجتماع علي فهمي تعبير الدين الشعبي باعتباره الخيط الممتد من آلاف السنين حتى عصرنا هذا محافظاً لنا على مئات من العادات والتقاليد التي لا يزال المصريون يتمسكون بها ولم تستطع موجات الاحتلال العسكري أو الغزو الثقافي بل طوفان العولمة أو الكوكبية أن تزيح هذه المعتقدات والتقاليد من وجدان المصريين، ولأن التسامح حالة وجدانية مصرية فلم ينظر المصريون عبر تاريخهم إلى موطن أو جنسية الأولياء الذين يزورونهم، فالسيد البدوي في طنطا قادم من مدينة فاس المغربية وأبو العباس المرسي في الإسكندرية قادم من مرسيه ببلاد الأندلس وأبو الحسن الشاذلي ومقبرته في جنوب مصر الغربي قادم من تونس وعبدالرحيم القناوي في مدينة قنا قادم من مدينة سبتة المغربية.

جذبت تلك الظاهرة الفريدة انتباه المؤرخين والمستشرقين والرحالة الذين زاروا مصر وعاشوا بين المصريين وهو الأمر ذاته الذي انعكس على ضباط الحملة الفرنسية وعلمائها الذين وضعوا موسوعة وصف مصر وقبلهم ابن تغري بردي وابن إياس والمقريزي والجبرتي، وعندما أتت العذراء مريم إلى مصر رأى المصريون في قصة ميلاد ورعاية ابنها السيد المسيح، عليه السلام، كثيراً من التشابه مع معشوقة "إيزيس"، وهو الأمر ذاته مع السيدة زينب رضي الله عنها التي جاءت إلى مصر لاجئة من بطش معاوية بن أبي سفيان وأتباعه، ولما لم يكن للسيدة زينب ولد تحمله كحورس أو المسيح فقد خلق لها وجدان الشعب المصري المحب لآل البيت بديلاً وجعلها القصص الشعبي تحمل رأس الحسين وتعود به إلى مصر ليدفن بأرضها مثلما لجأت العائلة المقدسة طلباً للأمان من بطش الرومان.

لقد ظللت لسنوات طويلة مهووساً بالتداخل بين الثقافات بمنطق الجوار الجغرافي ثم عدلت عن ذلك ولجأت إلى التسلسل التاريخي، وقد خرجت من الحالين بمفهوم واحد هو أن الثقافات تتواصل ولا تتنافر وأن الجيوش تحارب والحضارات تتغلغل في أعماق الطرفين من دون تفرقة أو تمييز، وحاولت الدولة العبرية مثلاً مواجهة الوجود العربي في الشرق الأوسط بدعايات كاذبة محاولة سرقة التراث الثقافي بدءاً من أهرامات الجيزة وصولاً إلى طبق الفول والطعمية، فالسطو التاريخي على الحضارات وتشويه الثقافات هما أمران شائعان في هذا العصر، وما أظن حضارة تعرضت للتشويه في العقود الأخيرة مثلما جرى للحضارة العربية الإسلامية التي جرى استبدال التسامح فيها بالتعصب، والاعتدال بالتشدد حتى أضحينا أمام حال من الركود الذي ينهي الحقيقة القائلة، "إن التفكير فريضة إسلامية، وإن باب الاجتهاد مفتوح، وإن ما تجمع عليه الأمة هو الصواب حتى إن خالف نصاً فرعياً لأئمة المسلمين باستثناء ما جاء في القرآن الكريم والأحاديث المؤكدة".

أقول ذلك لكي نلفت النظر إلى أهمية دراسة التداخل بين الحضارات والنبش المتعمد في الأرضيات المشتركة وجذبها في اتجاه معين لخدمة أهداف بذاتها، والعجيب في الأمر أننا كلما أمطنا اللثام عن المجهول لا تزداد مساحة المعلوم كما هو متوقع بقدر ما تزداد مساحة المجهول أيضاً، فكل حقيقة يجري اكتشافها تستدعي وراءها أسراباً من المعلومات تجعلنا نقف على منصات جديدة للتفكير العلمي السليم، ويهمني هنا أن أسجل الحقائق التالية:

أولاً: إن الحضارة وعاء إنساني يحتوي التيارات والاتجاهات كافة في ظل منظومة متجانسة تتناغم مع أطرافها كالأوركسترا التي تعزف الموسيقى التي ترضي الأذواق وليست تلك النغمات النشاز التي تسمح بأن تخرج آلة عن النوتة وتعصف بجمال اللحن، فالحضارة بناء إنساني ومكون بشري تتزايد قيمته كلما تأصلت جذوره وامتد عمره.

ثانياً: إن العمر الافتراضي للحضارات غير محدد بطبيعته ولكنه يرتبط بعوامل الضعف والانحلال وغالباً ما يأتي خواء الحضارات من داخلها وعندها تتهاوى القيم وتزوي التقاليد وتضعف طرائق التفكير ومناهج البحث ويختلف الأمر، فالحضارة نهج فكري يقوم على أسس راسخة لا تسقط بالتقادم ولكنها قد تضيع في الزحام، خصوصاً إذا سيطرت المواقف الشعبوية على الأفكار النخبوية.

ثالثاً: إن القياس الحضاري القائم على التداخل المشترك يجد نماذج واضحة له في القارة الأم (آسيا الكبرى)، فـ"الغورو" في الهندوسية يقترب عن مفهوم الإمام لدى شيعة المسلمين وهما معاً يشتركان مع مفهوم العصبية القبلية في التاريخ العربي، أي أن القياس المشترك قائم دائماً وفي كل الأحوال.

إن قاهرة المعز تضم متحفاً إسلامياً مفتوحاً هو شارع المعز ومتحفاً فرعونياً مفتوحاً وهو منطقة الأهرام وتلك هي شواهد حضارية لا تزول، وليس هناك ما هو أروع من ذلك التوصيف لما نملك، وأخيراً فإن فلسفة الحضارة تقوم على الحوار الذي يحترم الرأي الآخر ويؤمن بما قاله الإمام الشافعي رضي الله عنه، "إن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" التي ترجمتها المقولة الشهيرة لـفولتير في الحضارة المسيحية الأوروبية بعد ذلك بقرون عدة والتي تعني استعداده للدفاع عن حرية رأي حتى لو كان يختلف معه. تلك هي الحرية الحقيقية والاحترام الكامل لتواصل الحضارات.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تواصل الحضارات تواصل الحضارات



GMT 00:09 2024 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

القصور تكتظ بهنَّ

GMT 00:09 2024 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أحلام كسرى وفلتات الوعي

GMT 00:08 2024 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

مأساة السودان وثقافة إنكار النزاع الأهلي

GMT 00:07 2024 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

بالنسبة لوضع لبنان... «إنها الديمغرافية يا غبي!»

GMT 00:06 2024 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

سهرة في متحف الشمع

الأميرة رجوة بإطلالة ساحرة في احتفالات اليوبيل الفضي لتولي الملك عبدالله الحكم

عمان - صوت الإمارات
أطلت الأميرة رجوة الحسين زوجة ولي عهد المملكة الأردنية الهاشمية الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، في الاحتفالات التي اٌقيمت يوم أمس 9 يونيو لمناسبة يوم الجلوس الملكي، واليوبيل الفضي  لتولي الملك عبدالله الثاني مقاليد الحكم، بإطلالة مميزة وساحرة باللون الأحمر، وكانت عبارة عن  ثوب منسق بعناية مدروسة مع كاب من النسيج نفسه، وقد تم تطريز ياقة الثوب بألون العلم الأردني، فيما زخرفت العباية المفتوحة بكاملها بخيوط فضية ورسوم مع عناية خاصة بالتطريز للتصميم من الجهة الخلفية للثوب. وقد اكتفت الأميرة بأقراط ماسية مع خاتم مطعم بحجر كبير من الألماس، واعتمدت تسريحة شينيون طبيعية أظهرت رقي الثوب الذي اعتمدته والتطريز الذي يتضمن رسالة ومغزى وطنياً. وبدورها أعربت المصممة هنيدة صيرفي عن افتخارها باختيارها لتصميم زي الأميرة رجوة الحسي...المزيد

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 22:04 2018 السبت ,13 كانون الثاني / يناير

أمين الشرقية يفتتح بطولة "عز وهيبة" للفروسية

GMT 00:53 2016 الأربعاء ,09 آذار/ مارس

جامعة الباحة تدشن قاعات التعليم الإلكتروني

GMT 20:42 2014 الأحد ,28 كانون الأول / ديسمبر

السياح والزوار الإجانب يشيدون بمهرجان الظفرة الثامن

GMT 22:41 2013 الأربعاء ,07 آب / أغسطس

الدلافين تتمتع بذاكرة فائقة

GMT 16:50 2015 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

خلايا شمسية جديدة متطورة تتبع أشعة الشمس

GMT 03:47 2013 الخميس ,04 إبريل / نيسان

اليابان تقرر تحرير سوق الكهرباء ابتداء من 2016

GMT 19:20 2017 الأحد ,02 تموز / يوليو

"إسعاف دبي" تدشن خدمة "المستجيب النسائي"

GMT 15:54 2013 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

منتجع "اليم انانتارا" يعيد الحياة لمساكن الأجداد بشكل عصري

GMT 01:51 2014 الجمعة ,31 تشرين الأول / أكتوبر

حجاب العروس أصبح مميزًا من حيث التطريز والتصميم

GMT 13:16 2017 الخميس ,26 تشرين الأول / أكتوبر

عملاء "غوغل" يكشفون عن عيوب هاتفي "بيكسيل 2"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates