علاء الديب

ابن طبقة متوسطة، فتح عينيه على أبٍ هجر الشعر، إلا أنه لم يهجر أدب الإمام علي وقصائد المتنبي، وشقيق أكبر بمثابة قدوة ومعلم، وحين التحق بالجامعة كانت مكتبتها بيتًا وملاذًا، يقرأ فيها "بنهم وبلا نظام" من الصباح إلى المساء، وحينما بدأ مشوار الصحافة، توطّدت حكايته مع الكتب؛ إذ خصص لها زاوية بعنوان "عصير الكتب"، إنه المبدع علاء الديب، الذي يعد واحدًا من أبرز الشغوفين بالكتاب، وصاحب قلم يبشر منذ عقود بالأصوات الصادقة، ويلفت النظر إلى ما يستحق المطالعة: رواية لبنانية، أو سيرة ذاتية مغربية، أو ديوان لكاتب مبتدئ من أقصى صعيد مصر.

حالة متفرّدة، يشكّلها علاء الديب، الذي يرقد على سرير المرض حاليًا، إذ لم تفارقة محبة الكتب، وظل يداوم على مراجعاتها وإلقاء الضوء عليها، وبقي على وفائه لها، حتى وإن تغيّرت الزوايا وأسماء المجلات والجرائد التي يكتب فيها، من "صباح الخير" حيث الانطلاقة الأولى في الستينات، إلى "الأهرام"، و"المصري اليوم" قبل أسابيع.

ووصف علاء الديب بالحالة المتفردة هنا لا يبدو مبالغة؛ فالقلم الذي فتح الأعين على آلاف الكتب، اكتفى من الإبداع الشخصي بعدد قليل من الروايات القصيرة والقصص، تكمل الصورة، وتعكس ذوق الكاتب الذي طالع الكثير، و"عصر" ما بين آلاف الأغلفة من جهات العالم الأربع. ويقول: "تعلمت أن أحب الكلمات، وتعلمت أن لا أرددها دون فهم أو إدراك. فهم الكلمات ومحبتها كان هو المفتاح السحري الذي يقودني إلى بهجة العقل ونعيم الفهم والتفكير.. كلمات كتب الفلسفة كانت تقيم قامتي الإنسانية، تجعل رأسي سامقًا يمسح السماء وتملأ صدري بالهواء الحر والنور".

ويفتش علاء الديب دومًا عن الجمال والنقاء على الورق، لذا كانت الكتابة لديه صعبة، لها قدسية، تحاول أن تخط المغاير: "لو سألتني ماذا تريد من الكتابة لقلت لك: أريد أن أمسك بلون السماء الزرقاء، أن أنقل تقلب السحاب الأبيض فيها، سابحًا في الزرقة والامتداد أن أكتب ظل أوراق الشجر على الجدران يرسمها ضوء قمر. أقول: أما قرأت سورة الرحمن".

بعشق حقيقي، تعامل الديب مع الكتاب.. فعل قراءة وممارسة؛ هواية ومهنة، فهو في الغالب يتعاطف مع ما يتناوله من كتب، ويستحث قراءه على مطالعتها، ولا يدّعي - ذلك المثقف المبدع - أنه ناقد، بل مسلط للضوء، وفاتح نافذة صغيرة كي يتسلل منها شعاع هذا الكتاب أو ذاك، لينأى بقلمه عن التنظير، وإضفاء هالات ومصطلحات، تنفر في الغالب من القراءة والكتابة معًا.

الحكاية - كما العادة غالبًا ـ بدأت في البيت، فبدايات علاء الديب مع الكتب، كانت فاتحتها من المنزل "البرجوازي" الذي نشأ فيه، هناك في منطقة المعادي، التي كانت قديمًا ضاحية أرستقراطية هادئة، يفصلها عن قلب العاصمة المصرية 12 كيلومترًا "كلها كانت مزارع ومشاتل ورد ونخيل حتى (منطقة) دار السلام". كما روى علاء الديب في شهادة له نشرت بمجلة الهلال في عام 2002، وضمها كتابه الذي أصدره مشروع مكتبة الأسرة في عام 2012 "6 روايات قصيرة".

أثر الأب كان كبيرًا؛ إذ "كان شخصية إنسانية مميزة، له حضور هادئ مشع لا ينسى.. اسمه (حب الله) وله من اسمه عندما يكتب وينطق صحيحًا الشيء الكثير، شاعر وفنان متصوف في روحه وفي طريقة تناوله للأشياء". قرأ الابن مع والده على سجادة الصلاة القرآن، وكان الأب "يحب الأدب الصغير والأدب الكبير... والمتنبي وديوان الحماسة"، ورغم أنه هجر الشعر، إلا أنه ظل يردد القصائد على مسمع ولده.

وصاحب الأثر الثاني في نفس وعقل علاء الديب كان الشقيق الأكبر "بدر": "وما أدراك من هو بدر الديب! هو بالنسبة لي شقيق وحبيب ومعلم وقدوة وما شئت من صفات عاطفية وعقلية وأخلاقية، كانت ومازالت كما بدأت حية، وحقيقية ومركبة كأنها علاقة مع النفس". الأخ الأكبر كان بمثابة المستفتى في تلك الآونة للصبي علاء الديب، يسأله مثلًا عن تعريف ومعنى "أيديولوجية"، فيرشده إلى "كتابين أو ثلاثة في مكتبته.. استوعبت الدرس: أن أبحث أنا عن تعريفي الخاص، أن أفكر مستقلًا لكي أفهم. من بدر الديب تعلمت الكثير، وحفظت معه (نشيد الإنشاد).. وقرأت معه بعض أشعار إليوت، وجلست إلى جواره وهو يكتب مقدمته المهمة لديوان الناس في بلادي لصلاح عبدالصبور. كان عضوًا في جماعة للكتاب والفنانين يجتمعون في بيتنا، وهناك رأيتهم جميعًا وأنا طفل: توفيق حنا، محمود (أمين) العالم، يوسف الشاروني، مصطفى سويف.. وضعني بدر على الطريق، وعلمني متعة الكتابة، ومحبة الفلسفة".