بسمة خلفاوي أرملة المعارض التونسي الراحل شكري بلعيد

كان واضحًا منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها الثورة في تونس أن القوى السياسية ذات النفوذ سوف تبذل كل ما في وسعها لفرض رؤيتها أو الفشل، وتتمثل هذه القوى السياسية في القوى الداخلية التي سُلبت حقوقها في عهد النظام القديم، ودول الخليج التي تخشى على انتشار عدوى الثورة بين شعوبها، والقوى الغربية التي فقدت عملاءها الإستراتيجيين، والتي لا تريد أن تفقد المزيد.ونشرت صحيفة "الغاريان" البريطانية مقالاً أشارت فيه إلى أن الصراعات التي تشهدها حاليًا بلدان ثورات  "الربيع العربي" بشأن الدين والهوية تهدد بتحويل الانتباه الحقيقي عن المعركة الأساسية من أجل العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني. وفي أعقاب سقوط كل مصر وتونس سريعًا في هذا المأزق، تعرضت الثورات الأخرى إلى مصير مختلف، ففي ليبيا تم اختطاف الثورة، وفي البحرين تم سحقها، وعم المنطقة صراع طائفي سامّ، وانقلبت الثورة في سورية إلى حرب أهلية دموية. وأشار مقال "غارديان" إلى أن أموالاً نقدية ضخمة تتدفق على تلك البلدان في مرحلة ما بعد الثورة من أجل عدم استقرارها، أو السيطرة عليها واستيعابها. وفي ما يتعلق بتونس فقد بدأت بانتخاب زعماء إسلاميين، وكانت هناك تعددية بالقدر الكافي اللازم لنجاح التجربة الديمقراطية، وعرض نموذج تقدمي لبقية بلدان المنطقة، إلا أنها وبمقتل الزعيم اليساري شكري بلعيد في شباط/ فبراير الماضي لم تنجُ من موجة الثورة المضادة، حيث بدأ الصراع بين الجماعات العلمانية والإسلاميين مع ظهور بعض حوادث العنف القليلة التي تورط فيها بعض السلفيين المتطرفين، وبصرف النظر عمن ارتكب جريمة اغتيال بلعيد التي تسببت في احتجاجات واسعة النطاق وأحداث شغب والمطالبة بحل البرلمان وإسقاط الحكومة، فإنه كان من الواضح أن هذه الواقعة كان الهدف منها الدفع بتونس نحو عدم الاستقرار. واستضافت تونس على مدى شهرين من الواقعة عشرات الآلاف من النشطاء الدوليين في المنتدى الاجتماعي العالمي، الذي شهدت البرازيل بدايته قبل 12 عامًا، وذلك بهدف دعم التغير الجذري في شمال أفريقيا والعالم أجمع. وأشارت التقارير الأمنية إلى أن المدينة كانت في ذلك الوقت هادئة وخالية من التهديدات وفي ظل وجود هزيل للمتطرفين من السلفيين ونشاط الحركات الاجتماعية وحملات النقابات التجارية والتظاهرات الاحتجاجية، ولكن أزمة البطالة والفقر التي تسببت فيها الثورة التونسية ازدادت سوءًا عما كان عليه الوضع في العام 2010، كما ظل الفساد في الشرطة والبيروقراطية على حالهما المؤلم. وشهدت البلاد على المستوى السياسي حالة من الاستقطاب بين الدين والعلمانية، أي بين حزب "النهضة" الإسلامي الوسطي الذي عانى الاضطهاد والعنف في عهد الديكتاتور السابق بن علي، والذي فاز بانتخابات 2011، وبين أحزاب المعارضة بشقيها اليميني واليساري، والتي تتهم حزب "النهضة" بالسعي لتحويل تونس إلى دولة دينية في الخفاء. ولو كانت المعركة من أجل حماية حقوق المرأة والحقوق المدنية لكان ذلك أمرًا ضروريًا، ولكن ما يجعل الصراع يبدو مختلقًا ومدبرًا هو أن "النهضة" كان ملتزمًا بائتلاف مع الأحزاب العلمانية وحقوق المرأة، ورفض محاولات تطبيق الشريعة الإسلامية، وأصر على أنه لا يوجد خلاف بين الإسلام والعلمانية.  وألقى النقابي البارز قاسم عطية باللوم على الإسلاميين في هذا الانشقاق، وقال "إن الضغط الاجتماعي عليهم هو السبيل للدفاع عن الحقوق المدنية"، ويعتقد مصطفى بن جعفر في الجمعية الدستورية أن تصميم المعارضة على الدخول في "أسلوب الحملات" فور هزيمتها هو سبب الاستقطاب.   وبصرف النظر عن السبب الحقيقي فإن هناك خطرًا كما هو في مصر (التي يأخذ فيها الاستقطاب شكلاً أعمق) في أن تتحول السياسة إلى طابع الحروب الثقافية بشأن الدين والهوية على حساب المعركة الحقيقية وهي العدالة العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسيادة الوطنية، والصراع الحالي يناسب قوى فلول الأنظمة القديمة ويؤدي إلى نشأة تحالفات متناقضة، فالسعودية والإمارات وهما دولتان ذواتا نزعة سلطوية دينية، تؤيدان العناصر الليبرالية والعلمانية المعارضة في كل من مصر وتونس، لأنها تخشى من نجاح الحكومة الإسلامية الديمقراطية، لأن ذلك يتهدد النظامين السعودي والإماراتي. ولكن ذلك لا يناسب الغالبية في مصر وتونس، والواقع أن ذلك بسبب تأثير الأزمة الأوروبية على الاقتصاد التونسي، وما تبع ذلك من قيام الثورة التي تركزت مطالبها على الكرامة وفرص العمل والعدالة الاقتصادية. وتحاول الحكومة التونسية الإسلامية النظر في نسبة البطالة التي وصلت 17 في المائة، والإنفاق على المناطق الأكثر فقرًا، ولكن ذلك يصطدم مع سياسيات صندوق النقد الدولي، ويحاول حزب "النهضة" تقديم نموذج يجمع ما بين الرأسمالية والاشتراكية لكن الضغوط تتزايد من أجل خفض الدعم واستئناف الخصخصة. ولم يعد أمام تونس ومصر سوى التوجه على النحو الذي تبنته الحكومات التقدمية في أميركا اللاتينية من الإكوادور، من خلال توسيع القاعدة الضريبية، والحد من الفقر، وإعادة النظر في عقود الشركات المتعددة الجنسيات، واستخدام البنوك العامة في الدفع بعملية تنمية اقتصادية واسعة. ويطالب الاتحاد الأوروبي بدلاً من ذلك تونس بتحرير وخصخصة البنوك، وهي الأزمة نفسها التي أدت إلى الأزمة المالية العام 2008. ويدور التساؤل الآن عن مستقل الثورات العربية: هل تلبي مطالب شعوبها أم تسقط في هاوية العمالة الغربية، وهو سؤال لم يتم حسمه بعدُ، وسوف يعتمد على مستوى الضغوط الاجتماعية في الداخل وعلى مدى تدخل الدول الاستبدادية التي يدعمها الغرب، والتي تحاول فرض إرادتها على الثورات العربية. ومع ذلك، فإنه كلما انتشرت العملية الديمقراطية وتوسعت استطاع العرب أن يملكوا زمام أمور مستقبلهم.