تجديد النظم السياسية

تجديد النظم السياسية

تجديد النظم السياسية

 صوت الإمارات -

تجديد النظم السياسية

بقلم : عمرو الشوبكي

أعطت تجربة الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة رسائل فكرية وسياسية كثيرة لكيفية تجديد النظم السياسية وإصلاحها من داخل العملية الديمقراطية والسياسية. فكثير من الأفكار التى تختمر داخل المجتمعات يمكن تحويلها لطاقة بناء وتجديد إذا وجدت نظاما سياسيا قادرا على استيعابها ودمجها فى العملية السياسية عير قواعد قانونية ودستورية، على عكس النظم التى تقتل الأفكار والرؤى الجديدة (وحتى القديمة) فإنها تدفع بالتغيير من خارج الأطر الشرعية والقانونية مثلما جرى فى كثير من المجتمعات.

والحقيقة أن رحلة كثير من النظم السياسية مع فكرة التجديد الداخلى هى فكرة معاصرة وتبلورت فى أوروبا الغربية عقب الحرب العالمية الثانية حين ظهرت مدارس كثيرة فى الفكر السياسى دعت إلى التعامل مع الأفكار المختلفة، بما فيها المتطرفة أو المتشددة (وليس بالطبع العنيفة) من خلال نظرة إدماجية (يستخدمون بالفرنسية تعبير Intégrationniste) لهذه الأفكار والتيارات.

وربما تكون فرنسا واحدة من أكثر البلاد الأوروبية نجاحا فى هذا النموذج «الإدماجى»، فهى منذ تأسيس الجمهورية الخامسة على يد زعيمها الكبير الجنرال الراحل شارل ديجول وهى تعرف استقطابا عميقا بين اليسار واليمين، لم تعرفه مثلا أمريكا أو بريطانيا، لأن ثنائية الاستقطاب كانت فى هذين البلدين ومنذ البداية فى الوسط ممثلة فى حزبى العمال والمحافظين فى بريطانيا، وكان الحزب الشيوعى تقريبا غير موجود، وكذلك فى أمريكا، حيث عرفت ثنائية الجمهوريين والديمقراطيين، واستبعد الشيوعيون واليساريون الثوريون من المعادلة السياسية. على عكس فرنسا التى عرفت عقب الحرب العالمية الثانية حزبا شيوعيا ظل يحصل على 25% من أصوات الناخبين حتى انهيار الاتحاد السوفيتى، كما شهدت واحدة من أكبر الثورات الشبابية فى العالم فى عام 1968، أفرزت جيلا ثوريا ويساريا متطرفا بامتياز، دعا للثورة على نظام ديجول وإسقاطه ووضع المتاريس فى الشوارع، إلى أن اكتشف أنه ليس وحده فى فرنسا وشاهد واحدا من أكبر التجمعات البشرية فى تاريخ العالم فى ذلك الوقت، وهو ما سُمى «المسيرة الديجولية المضادة» فى شارع الشانزليزيه الفرنسى الشهير، والتى ملأت الشارع من قوس النصر حتى مكان المسلة المصرية، وضمت ملايين الفرنسيين الذين أعلنوا دعمهم لديجول فى مواجهة ثورة الطلاب اليساريين.

قوة النظام الفرنسى تكمن فى أنه نجح فى استيعاب طرفى الاستقطاب فى معادلة سياسية وديمقراطية آمنة، على عكس مجتمعات ونظم أوروبية أخرى وصل فيها الاستقطاب إلى الحرب الأهلية، مثل إسبانيا وغيرها.

قوة النظام السياسى هنا وربما عبقريته تكمن فى تلك القدرة على دمج الجديد وتحويل الطاقات الشابة حتى لو كانت متطرفة إلى قوة اعتدال وتجديد للنظام، من خلال منظومة قانونية ودستورية وقانونية ديمقراطية، تدفع التيارات المتطرفة والثورية نحو الاعتدال والدخول فى العملية السياسية الشرعية، والانتقال من حديث الثورة وإسقاط النظام مثلما فعل طلاب 68 فى فرنسا وغيرها إلى تبنى إصلاح النظام وتغييره أو تجديده لأن هذا النظام سمح لهذه القوة بأن تعمل فى الشارع وتخوض انتخابات محلية وبرلمانية نزيهة تساعدها على الانتقال بخطابها من المطلقات والقيم الكلية وحلم التغيير الفورى والجذرى، إلى الخطاب النسبى ومواجهة المشاكل اليومية للناس وإدارة تحالفات سياسية وانتخابية وإصلاح النظام وتجديده، لا إسقاطه.

يقيناً، التفاعل بين نظام حيوى وديمقراطى مع قوى جديدة سواء كانت متطرفة أو معتدلة يعنى أن هذا النظام قابل للتطور والاستجابة لجانب من هذه الأفكار، صحيح أنه فى حال دمج الأفكار والتيارات المتطرفة فى العملية السياسية يصبح التحدى أمام النظم الديمقراطية مركبا: يتمثل، أولاً، فى دفعها للعمل داخل الأطر القانونية والدستورية، وثانياً امتلاك هذه النظم القدرة والحيوية على تعديل جانب من هذه الأفكار المتطرفة ودفعها نحو الاعتدال، وهذا لن يتم إلا إذا كان النظام القائم أيضا نظام دولة قانون.

ولعل رحلة فرنسا مع التجديد والتغيير بدأت عقب تأسيس الجمهورية الخامسة عام 1958، فأحدثت أولاً قطيعة مع الجمهورية الرابعة وقامت بتجديد كامل للنظام السياسى وانتقاله من البرلمانى إلى الرئاسى على يد مؤسسها الجنرال ديجول، وظلت فرنسا يحكمها نفس التيار السياسى المنتمى لتجربة ديجول (الديجوليين) وبنفس الطريقة والفكر حتى وصل الرئيس الاشتراكى فرانسوا ميتران للسلطة عام 1981 وأحدث تغييرات اجتماعية وسياسية فى بنية النظام القائم، وقام بعمليات تجديد وإصلاح واسعة تراجع فيها عن كثير من أفكاره الاشتراكية غير الواقعية عقب وصوله للسلطة، مثل نظام التعليم الموحد وغيره، وهو أمر يؤكد نفس الفكرة السابقة بأن التفاعل بين المنظومة السياسية والقانونية السائدة أو الحاكمة، وبين التيارات والأفكار الجديدة أمر يؤدى فى ظل النظم الديمقراطية إلى تجديد الاثنين.

وبقيت فرنسا منذ الرئيس الراحل ميتران وحتى الرئيس القادم إيمانويل ماكرون بلا تغيير يذكر، فقد تناوب على حكمها التياران التقليديان: الاشتراكيون والديجوليون، فحكمها الديجولى المخضرم جاك شيراك لمدتين رئاسيتين، ثم الديجولى نيكولا ساركوزى لمدة واحدة، فى مقابل رئيس اشتراكى لمدة واحدة هو الرئيس الحالى فرانسوا هولاند. وجميعهم حافظوا تقريبا على الوضع القائم إلا من تغييرات محدودة.

لذا كانت فرنسا مهيأة لرئيس جديد من خارج القوى التقليدية، وهو الرئيس القادم ماكرون، فهو لا ينتمى للحزب الاشتراكى (انتمى له سابقا)، ولا إلى التيار الديجولى، فنال أصواتا من الجانبين، وقدم برنامجا وصفه البعض بأنه «ما بعد الحداثى»، لأنه يتجاوز التقسيمات الأيديولوجية التقليدية التى تفصل بين اليسار واليمين، كما أنه بالمعنى الجيلى هو أصغر رئيس فى تاريخ فرنسا (40 عاما)، وأنه أكثر الرؤساء اعتمادا على مواقع التواصل الاجتماعى وعلى دعم الشباب، من خلال خطاب سياسى يرفض القوالب السياسية والأطر الجاهزة، كما أنه يبشر بنمط سياسى «غير حزبى» يعتمد على الشبكات والحركات السياسية أكثر من الاعتماد على الماكينة الحزبية التقليدية.

إن هذه الأفكار الجديدة التى ينتقدها البعض ويعتبرونها غير أصيلة ومدعية، إلا أنها مثلت الجديد فى لحظة تاريخية ما، ووجدت لحسن الحظ نظاما سياسيا يقبلها ويتفاعل معها ويختبرها ويسمح لها بالوصول للسلطة التى تمثل اختبارا ثانيا لا يقل أهمية وصعوبة عن الاختبار الأول، أى اختيار الناس.

لقد تقبلت فرنسا رئيساً من خارج المشهد السياسى التقليدى مثلما تقبلت مرشحين من اليسار، كانوا فى البداية من خارج هذا المشهد، قبل أن يصبحوا جزءا منه، فماذا سيقدم الشاب ماكرون لفرنسا والعالم عمليا عقب فوزه فى جولة الإعادة فى 7 مايو القادم؟.. سنرى.

المصدر : صحيفة المصري اليوم

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تجديد النظم السياسية تجديد النظم السياسية



GMT 16:39 2024 الأربعاء ,01 أيار / مايو

الهدنة المؤقتة

GMT 05:08 2024 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

الردع المتبادل

GMT 02:14 2024 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

ما بعد الرد الإيراني

GMT 00:45 2024 الثلاثاء ,09 إبريل / نيسان

فتحي سرور

GMT 18:18 2024 الأربعاء ,03 إبريل / نيسان

المفارقة التركية

الملكة رانيا تتألق بإطلالة جذّابة تجمع بين الكلاسيكية والعصرية

لندن - صوت الإمارات
لطالما عودتنا الملكة رانيا على إطلالاتها الأنيقة بستايلات مختلفة وفق المناسبة التي تحضرها. وفي أحدث لقاء تلفزيوني لها، اتجهت الى التألق بطقم أنيق بين اللمسات الكلاسيكية والعصرية، بنمط شبابي ايضا، وهو نمط اتبعته في العديد من اللقاءات الحوارية التي ظهرت بها على شاشات التلفزة. نرصد لكم هذه الإطلالات لتستلهموا منها أسلوبها الملهم. اتجهت الأنظار نحو الملكة الأردنية رانيا في لقائها التلفزيوني مع الإعلامية الأمريكية جوي ريد في برنامجها التلفزيوني ذا ريدآوت. وتألقت الملكة في اللقاء بطقم حيادي باللون الاسود بتصميم عصري ومريح يناسب اللقاءات الحوارية. تألف من سروال أسود واسع مع الزمزمات عند الخصر، والخصر العالي المزين باثنين من الأزرار البيضاء العريضة، وهو من توقيع " louisvuitton"، اما التوب فجاءت بنمط المعطف القصير والكروب توب م�...المزيد

GMT 00:23 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 21:27 2019 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

تتركز الاضواء على إنجازاتك ونوعية عطائك

GMT 17:45 2017 الأربعاء ,25 كانون الثاني / يناير

أفكار لتزيين الجدار فوق الأريكة في غرفة المعيشة لديكور مميز

GMT 03:11 2015 الخميس ,29 كانون الثاني / يناير

عرض فيلم "أوراق العمر" في المجلس المصري للثقافة

GMT 21:33 2013 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

"كمبينسكي نخلة الجميرا" دبي يعتزم تطوير قوائم الطعام

GMT 05:41 2017 الجمعة ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح للفتاة المحجبة لتجنّب تساقط الشعر والمحافظة عليه

GMT 14:51 2017 الجمعة ,21 إبريل / نيسان

كيندال جينر تبرز في ثوب مميّز كشف عن ساقيها

GMT 12:25 2016 الأربعاء ,19 تشرين الأول / أكتوبر

استمرار الإقبال على الأحذية طويلة الساق لموضة شتاء 2017

GMT 08:27 2014 الأربعاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

الفريق حمد الرميثي يبحث التعاون العسكري مع نيوزلندا

GMT 14:28 2020 الإثنين ,27 كانون الثاني / يناير

"طلقني شكرا" يستعرض أسباب الطلاق في المجتمع المصري

GMT 03:45 2019 الأربعاء ,27 شباط / فبراير

خالد إسماعيل يدعو إلى تهدئة الوضع داخل "النصر"

GMT 02:20 2018 السبت ,20 تشرين الأول / أكتوبر

أمير كرارة وبيتر ميمى عن فيلم "كازابلانكا" سنغزو العالم

GMT 04:21 2013 الإثنين ,01 تموز / يوليو

فيلم وثائقي عن "الأيام الأخيرة للإخوان في مصر"

GMT 23:28 2013 الأربعاء ,31 تموز / يوليو

انفجار في أحد مطاعم جبل عمان

GMT 18:23 2018 الجمعة ,13 إبريل / نيسان

العين يكتسح رأس الخيمة داخل صالات أصحاب الهمم

GMT 03:51 2013 الخميس ,13 حزيران / يونيو

بدء عرض فيلم عن حياة ستيف جوبز في 16 أغسطس
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates