تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكييوتوبيا البلاهة
آخر تحديث 17:01:12 بتوقيت أبوظبي
 صوت الإمارات -

"تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"يوتوبيا البلاهة

 صوت الإمارات -

 صوت الإمارات - "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"يوتوبيا البلاهة

الرياض ـ وكالات

لشقيقة كاتيا، للكاتب الأسباني أندرس باربا، رؤيتها وعالمها الخاص، إنها تقتحم الخطاب المعرفي لتكسر فيه مركزيته، لم تعد المعرفة احتكارا نخبويا، ولا القيم أخلاقا ناجزة، فلدى شقيقة كاتيا ما يبرر الشك بالمنظومة والنسق، إنها احتجاج ضد السلطة، السلطة بالمعنى الفيكوي، وتكريس للقول المرتبك، القول الخارج عن كل رقابة وتدقيق وسيطرة، القول الرافض للتسلط والذي يمكن للمركز نعته بالقول الأبله، والرواية بأكملها، مساجلة بين القولين: بين المركز والهامش، بين السطح والقاع، بين كاتيا وشقيقتها. لهذه المعتوهة في رواية "شقيقة كاتيا" امتداد دلالي "لسفينة الحمقى" التي هي ليست مجرد صورة فانتازية لأدب الجنون أو الغريب أو المختلف الثقافي، بل هي أيضا واقع تاريخي يشير كما يؤكد ميشيل فوكو إلى واقعة النبذ والإقصاء والسيرورات الثقافية للشطب والعزل والنفي. سفينة الحمقى هي مكان اللعنة، المحجر أو المعتقل الكبير الذي يتخلل المدينة ويهددها، إنها سفينة المهمشين، حكمت عليهم الثقافة بالإدانة الأخلاقية والتصفية، إنها باختصار مكان اللاعقل. والسفينة فعل ذاتي ثقافي بامتياز، العقل يتحدد مما هو مقبول لدى الذات المركزية، أما الجنون فهو هوية الذات المهمشة، الجنون هو المرفوض في البنية الثقافية. في كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" راح ميشيل فوكو يؤرخ لظاهرة الجنون ولكن بوصفها مقولة ثقافية، حيث يجب التمييز وفقا لفوكو بين المقاربة العلمية التي تكاد تصبح مستحيلة نتيجة تداخل المتخيل والواقعي وبين مقاربة تستمد معطياتها من آليات وأدوات الفعل الثقافي، وأي خروج على هذا الفعل وما سيصبح منجزا في المدينة واللغة والمنطق واليقين هو دخول في سفينة الحمقى، الجنون كسر للمنطق المكرس ثقافيا، إنه عالم اللايقين، أو عالم العبور والترحال الدائم، فالمجنون، كما يقول فوكو، بؤرة العبور إلى اللاشيء" فلا حقيقة له ولا وطن إلا في ذلك الامتداد الخصب بين البراري التي لا يمكنه الانتماء إليها". لا يبدو المفهوم الفيكوي للجنون مقتصرا على جدلية الحضارة والطبيعة، لأن الحضارة ذاتها ادعاء ثقافي ليس منزها عما هو بربري، ندرك مع فوكو أن الذات المركزية تستخدم الجنون كأداة للهيمنة، لكنها أيضا تسهم في تكريس الجنون كآخر، إنه سياج للحماية، فالحضارة دائما وأبدا، كما يحلو للكاتب الإفريقي كويتري، هي "في انتظار البرابرة"، البربرية، في تصور كويتري، عدو مبتكر، لكننا هنا مع ميشيل فوكو وأندريس باربا نلمس تسللا بربريا في كل نسيج الحضارة، يبدو الجنون و"شقيقة كاتيا" أداة للكشف، لتعرية وإدانة الهمجية في كل سلوك حضاري مزعوم، والمجنون يمكنه أن يكون وجها للمقدس، يقول فوكو: "حكمة الطبيعة هي من العمق لدرجة أنها تستعمل الجنون باعتباره الدرب القصير المؤدي إلى الحكمة". تكشف "شقيقة كاتيا" همجية العالم بسذاجة نصف الأحمق، ربما هي بليدة أو معتوهة لكنها حتما ليست مجنونة، إنها بالمعنى الطبي سليمة من كل الأعراض الذهانية، وإذا كان الجنون الطبي مرضا، والجنون الثقافي انحسارا إلى منطقة الظل، فإن البلاهة أكثر سوءاً، إنها تراوح منطقة رمادية، البلاهة بوصفها بين العقل والجنون عصية على كل ماهية. "شقيقة كاتيا" إذن خارج الانتماء، لذلك عمد الكاتب إلى مزيد من التعمية، لا نعرف اسم شقيقة كاتيا ولا زمانها، إنها وحسب تنتمي إلى قاع المجتمع الإسباني في مدريد، نلمس صفة الغموض حتى في الإطار الزمني للرواية، فالمونولوج لشقيقة كاتيا يتداخل مع الحوار والأحداث الموزعة توزيعا اعتباطيا، ما يجعلنا أمام متاهة سيكولوجية ملتحمة بمتاهة من السرد، متاهة لا تترك للمتلقي سوى هامش ضئيل. الرواية تستمد مضمونها من قاع المجتمع، الأم مومس، وكاتيا راقصة "استرببتيز" وشقيقتها نصف عاقلة ونصف مجنونة وكل غايتها هو مشاهدة السائحين في مدريد، وبالإضافة إلى الجدة تمثل كاتيا وأمها الشخصيات الأساسية التي تمثل ثلاثة أجيال، أما شقيقة كاتيا فهي الضمير الغائب، إنها "هي" التي تعاين وتسجل الأحداث من خلال حوار داخلي يتخلله ألم أو فرح أو دهشة طفلية أو استغراب حكيم، إن البساطة هي معمار الرواية، لذلك استند الكاتب إلى لغة سهلة لكنها مع ذلك لا تخلو من عمق، لكن كيف أمكن للكاتب محاكاة منولوج لفتاة مراهقة لا تتجاوز الخمسة عشر عاما؟ يبدو أن صعوبة ما كانت تواجه المبدع في متابعة هذا "السهل الممتنع"، فالطفلة التي تجهل معنى المقدس والاحتضان لن تدرك معنى الزهايمر، وللكاتب عذره، فهي بلهاء أي نصف مجنونة، والإدراك هنا يتخذ طابعا انتقائيا. لكن الزهايمر، المرض الذي أصاب جدتها، يرتبط بظاهرة الهروب نحو المستقبل، إن الفتاة ابنة غير شرعية للأم، إنها تفتقد الأب بكل ما يحمل من خصائص فرويدية، غياب الأب تأكيد على غياب الحاضر والضمير، ليس عن شقيقة كاتيا، فهي بصفتها تلك إعادة تأسيس، ولكن للمجتمع والقيم والأخلاق والحب والرؤى الدينية، فشقيقة كاتيا تبدو هنا نبية. شقيقة كاتيا نبية للكشف، وفي سبيل هذا الكشف تبدأ الرواية وتنتهي بمضاجعة محرمة أو تابو، علينا أن نقرأ هذه المضاجعة وكل سلوك صادم على امتداد الرواية على نحو رمزي، تبدو كاتيا تجسيدا للمتذاكي، الواقعي أو الإبن البار للحضارة بكل مثالبها وعيوبها، الحضارة الغربية تحديدا، فيما شقيقتها تبدو المخلص، فالرواية تقدم العالم ولكن من خلال رؤية ساذجة أو بريئة أو بلهاء، هي رؤية "شقيقة كاتيا"، ذلك المؤنث المنكر والمجهول، شقيقة كاتيا هي ما يحتاجه المتذاكي، ما ينقص من الصورة، هي وعد البراءة المنفية من عالم معقد ومخرب وجحيمي، والكاتب يقترح البلاهة المجسدة في "هي" خلاصا للعالم، إنها يوتوبيا البلاهة: "...لم تكن تتمنى الكثير، كانت تعلم أن أحدا لن يقول لها ذلك في الشارع، وبالأحرى لشخص مجهول ولكن إن قالها لها أحدهم فلن تخجل من الكلام ولن تقضم أظافرها، ولن تتوتر، ولن تعرق يداها، ولن تفعل ما تفعله ماما بشعرها عندما تكون غير مرتاحة، ستقول: "بكل سرور" ستنظر إلى قائمة الأسعار وستقول: "عصير طماطم".

emiratesvoice
emiratesvoice

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكييوتوبيا البلاهة تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكييوتوبيا البلاهة



GMT 01:28 2023 الثلاثاء ,03 كانون الثاني / يناير

"أنت تشرق. أنت تضيء" رشا عادلي ترسم لوحة مؤطرة

GMT 05:28 2022 الثلاثاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد حسن خلف يصدر دراسة أسلوبية لسورة القمر

GMT 01:16 2021 الإثنين ,29 آذار/ مارس

حكايات من دفتر صلاح عيسى في كتاب جديد

GMT 00:28 2021 السبت ,30 كانون الثاني / يناير

"بنات كوباني" كتاب أميركي عن هزيمة "داعش"

GMT 12:02 2021 الجمعة ,29 كانون الثاني / يناير

67 كتاباً جديداً ضمن "المشروع الوطني للترجمة" في سورية

GMT 20:20 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تحقق قفزة نوعية جديدة في حياتك

GMT 18:06 2013 الجمعة ,12 إبريل / نيسان

لورين ستونر تخطف الأنظار على شاطئ ميامي

GMT 21:37 2018 السبت ,29 كانون الأول / ديسمبر

ثياب ميلانيا ترامب تثير ضجة في مواقع التواصل الاجتماعي

GMT 19:50 2013 السبت ,23 شباط / فبراير

"سامسونغ سمارت بي سي برو"بمميزات عدة

GMT 19:57 2017 الأربعاء ,07 حزيران / يونيو

يسرى محنوش تحيي حفلة فنية على المسرح البلدي في تونس

GMT 04:19 2022 الثلاثاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

85 ألف درهم تعويضاً لعامل سقط من على سلم

GMT 01:37 2019 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الصين تطلق بنجاح خمسة أقمار صناعية للاستشعار عن بُعد

GMT 16:28 2019 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

شرطة رأس الخيمة تفعّل نظام الاستدعاء الإلكتروني

GMT 00:00 2019 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

الإمارات خارج قائمة أوروبا للملاذات الضريبية قريباً
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates